الجمعة 2023/12/01

آخر تحديث: 12:19 (بيروت)

"يا فلسطيني" لمحمد منير.. صوتُ القضية يُغنّي

الجمعة 2023/12/01
"يا فلسطيني" لمحمد منير.. صوتُ القضية يُغنّي
جندل تكوينك، يا فلسطيني يا فلسطيني، ينصر دينك
increase حجم الخط decrease
أكثر من خمسة وأربعين عامًا تفصل بين أغنية "يا فلسطيني"، التي أطلقها محمد منير منذ أيام قليلة عبر قناته الخاصة في يوتيوب (حققت أكثر من 130 ألف مشاهدة في أقل من أسبوع)، وأغنيته "القدس"، التي سُجّلت للمرة الأولى في أواخر سبعينيات القرن الماضي، وظلت ممنوعة رقابيًّا بسبب اتفاقية كامب ديفيد، إلى أن تضمّنها ألبومه "بريء" في منتصف الثمانينيات (بيعت منها مئات الآلاف من النسخ في أسواق الكاسيت المصرية والعربية، وحققت قرابة 30 ألف مشاهدة منذ بثها العام 2015 عبر قناته في يوتيوب).

وبمجرد أن تثار فكرة لحظية افتراضية عن إمكانية عقد مقارنة بين الأغنيتين، فإن وجود هذه الفكرة بحد ذاته ينطوي على الإقرار بأن الإبداع المتعلق بالثوابت والبديهيات والقيم المطلقة (نُصرة فلسطين)، يظل في جوهره الخالص وطبيعته الجمالية ومعاييره التقديرية مرهونًا بقدر كبير بالمتغيرات والأمور النسبية (أبجديات الفن وأدواته، الرؤية والمعالجة وحساسية التعبير، ملامح التفوق الصياغي والأدائي والتقني، الخ).

هي مسألة بديهية بطبيعة الحال في قراءة الفنون والآداب في مجملها، لكنها تجدد نفسها عادة مع كل طرح إبداعي، أدبي أو غنائي أو سينمائي أو تلفزيوني، يتصل بشكل مباشر بقضية كبرى تمثّل مركزًا للاهتمام الشعبي العام، كانتصار أكتوبر 1973، أو هزيمة 1967، أو حرب الاستنزاف، أو الثورات العربية في هذا القرن، أو المعركة الفلسطينية الاستبسالية المصيرية مع العدو المحتل، التي دخلت منعطفًا جديدًا منذ تصاعد الأحداث في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023.


ولعل الإشكالية في تعاطي البعض مع هذه النتاجات الإبداعية الظرفية، وليدة الأحداث المتفجرة أو ابنة القضايا المقدسة، أنه قد يصعب أحيانًا النظر الحيادي إليها من وجهة جماليّة مجردة. وذلك لأنها أعمال لا تخلو أبدًا من محاولة السعي إلى ممارسة دور أو مجموعة أدوار أخرى مركبة. فهي إبداعات قد ترتضي بأن توضع على ميزان التقييم من جهة. ولكنها، من جهة أخرى، بمثابة مشروعات نضالية أو اجتماعية أو سياسية أو تعبوية أو عسكرية، ولذا فإنها قد تأمل في أن تكتسب بهذه المعطيات الأخرى صفة الحصانة من المساءلة أو حتى الملامسة الموضوعية.

هل تقضي الضرورة، أو حتى الضرورة القصوى، أحيانًا، بأنه يمكن أن تحل وظيفة الإبداع محل الإبداع نفسه؟! إن الحقيقة التي تأكدت بمرور الوقت أن هذا الأمر لا يمكن أن يحدث أبدًا، بأي حال من الأحوال، وفي أي ظرف من ظروف. فمهما تعاظمت القضايا النبيلة والشؤون المُلحّة، والتفّ الجميع حولها من سائر الأطياف، فإن الإبداع الذي يتحدث باسْمها وينبع من تُربتها، لن يبقى له أثر، إن لم يكن إبداعًا في الأساس، بشروطه المستقلة المعروفة. والأمر الوحيد الذي يرفع الإبداع إلى مستوى الحدث الذي يتناوله، هو ليس الحدث وأجنحته المحلّقة عاليًا، وإنما مستوى الإبداع نفسه، ولا شيء غيره.

ولذلك، ببساطة، فإن الذاكرة تتجاوز الآن مثلًا الكثير من الأفلام السينمائية الرديئة و"المسلوقة" في صناعتها على عجل، التي اقترنت بانتصار أكتوبر 1973 أو بملفات الجاسوسية المخابراتية، على شاكلة "بدور" و"الرصاصة لا تزال في جيبي" و"العمر لحظة" و"حتى آخر العمر" و"الصعود إلى الهاوية" و"إعدام ميت"، وغيرها.

كما تتخطى الذاكرة أيضًا الكثير من الإبداعات الهشة المحسوبة على حالة الحراك الاجتماعي في مرحلة الثورات العربية وما بعدها، كالفيلم السينمائي "صرخة نملة" مثلًا في العام 2011، وكتلك الدواوين الشعرية التي حاولت بشكل أو بآخر التقاطع مع ثورة 25 يناير، وما لحقها من أحداث، وعمدت إلى الانغماس في ما يمكن وصفه بقاموس الثورة (الشهداء، الدماء، العيش، الحرية، العدالة، الخ)، وكليشهات الربيع العربي، ولافتات الميدان وشعاراته. وقد نُشرت بعض هذه الإصدارات في إطار سلسلة خاصة حملت عنوان "إبداعات الثورة"، أطلقتها في القاهرة الهيئة العامة لقصور الثقافة التابعة لوزارة الثقافة المصرية، في حين نُشرت بعض إصدارات أخرى بمعرفة سلاسل حكومية بالهيئة العامة للكتاب، وعن طريق دور نشر أهلية، منها الدار المصرية اللبنانية، والشروق، وبيت الياسمين، وغيرها.

ولم تتجاوز هذه الدواوين الهتافات الشعارية، كتلك التي كان يرددها الثوار في الحالة الميدانية الثورية، والخطاب البياني، والزعيق السياسي المجاني. كما جاءت أغلفتها بتصاوير موغلة في السطحية، كأن يحتوي الغلاف مثلًا لقطة فوتوغرافية لمظاهرات الشوارع، أو للقنابل الدخانية في أثناء الاشتباك مع الأمن، أو لمواكب الشهداء المحاطة بالورود، أو لمجموعة من النساء يرتدين علم مصر، وما نحو ذلك، كما في ديوان "وطن راجع من التحرير" الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة للشاعر مصباح المهدي، والموصوف بأنه "ديوان لشعب مصر العظيم"، وغيره من الأعمال البائسة الركيكة.

وبالعودة إلى محمد منير، وإطلالته الجديدة في "يا فلسطيني" (نوفمبر/تشرين الثاني 2023)، فإنه ليس المقصود بالتأكيد التلميح من خلال ما سبق إلى أنها مجرد أغنية وظيفية أو أغنية تلعب دورًا وتُشعل غضبًا وتوقظ ضمائر تجاه القضية الفلسطينية والشعب المناضل المكافح الذي لا يعرف الاستسلام. فالأعمال التي يقدمها منير في مجملها، على مستوى الكلمات والموسيقى والتوزيع والأداء والتصوير، مهما قُدّمت سريعًا وأنتجت في عجالة، تبقى بشكل عام عند حدّ ما، لا يقل عن المستوى المقبول والمأمول من التطلعات والطموحات.

ترتقي "يا فلسطيني"، المهداة إلى الشعب من محمد منير وحزب "حماة الوطن" المصري، إلى قدر لائق من الجودة في جميع عناصرها ومفرداتها، وأيضًا إخراجها على هذا النحو، ولكنها في الآن ذاته ليست أفضل شيء يمكن تقديمه في أحوال الإبداع والإنتاج الطبيعية، وهذا ما يتجلى بالقياس مثلًا إلى أغنيته الأخرى الأكثر نضجًا وعمقًا ووعيًا، في القضية ذاتها، عن "القدس"، منذ أكثر من خمسة وأربعين عامًا، رغم أن منير وقتها كان مطربًا ناشئًا.

يضم فريق عمل "يا فلسطيني" عصام عبد الله مؤلفًا، وكامل الشريف ملحنًا، وفتحي سلامة موزعًا، وأحمد عبد المحسن مخرجًا. وتقول كلمات الأغنية "يسكت يسكت نبض الشعب، وفجأة يطرشقلك شرايينك/ يا اللي مخطط تلغي العدل، وشياطين الشر في تكوينك/ يسكت يسكت الاستحمال، لما مراره يساوي الموت/ ينتحر الصبر في فيضانه، وينفجر الشعب المكبوت/ تسرق، تحرق، تقتل، تهدم، وتتفنن في صنوف الغدر/ آدي الشعب، إن حب يرد، بحجارة، بحجارة، بحجارة/ جندل تكوينك، يا فلسطيني يا فلسطيني، ينصر دينك".


وتتسق الكلمات التي تختزل القضية على هذا النحو الحماسي البسيط، مع الجُمل اللحنية الأناشيدية، والتوزيعات والإيقاعات المارشالية، في حالة طقسية شبه ثابتة، وإن كانت الصور المرئية تنقل تصاعدات أخرى مثيرة موازية. ويأتي ذلك من خلال مشاهد سريعة تبدو كأنها انفجارات متتالية لخلايا دموية وأعضاء حية داخل الجسم الإنساني، في حين لا تظهر سوى صورة عابرة سريعة للمشهد الفلسطيني الصريح، في السياق البصري الترميزي الكلي، الذي ربما يعد العنصر الأكثر تميزًا في العمل، مقارنة ببقية العناصر.

أما أغنية "القدس"، فتبقى أيقونة أغنيات منير لفلسطين، إذ اقترنت بنخبة من العيار الثقيل على مستوى الكلمات والألحان إلى جانب الأداء الغض لمنير اليانع وقتها، كحالة غنائية مبتكرة متفردة. وقد كتبها الشاعر مجدي نجيب، ولحنها هاني شنودة، ومن أجوائها "ينساني دراعي اليمين، ينساني دراعي الشمال، ينساني نني العين، وآهة الموال، لو نسيت القدس/ تنساني فرحة في عنيا، ودنيا خضرة جاية، ينساني قلب الجميع، تنساني بسمة رضيع، لو نسيت القدس". ولقد ظلت الأغنية حبيسة بعد تسجيلها في أواخر السبعينيات، لاعتراض الرقابة عليها بسبب أجواء معاهدة كامب ديفيد في عهد الرئيس السادات، إلى أن جرى الإفراج عنها لاحقًا في عهد الرئيس مبارك، لتصدر ضمن ألبوم "بريء" العام 1986، وهو أحد أبرز ألبومات محمد منير، وأكثرها تأثيرًا، وأوسعها انتشارًا.

وتبقى إشارة أخيرة، إلى تصريحات محمد منير نفسه بشأن أغنية "يا فلسطيني" الجديدة. فالملاحظ أن هذه التصريحات تعكس بوضوح واختصار رغبته في إثبات أن صوت القضية هو الذي يغني، ذلك أن "الحنجرة تتحول إلى سلاح في هذه الفترة العصيبة، على مستوى الوطن العربي كله، وضروري أن يكون للمطرب دور في ما نعيشه من أحداث". ويستطرد واصفًا أغنيته بأنها "تبلور الصمود والمقاومة والتصدي لدى الفلسطينيين، أمام عدوان غاشم إجرامي قاتل".

لقد أراد محمد منير أن يقول بتلقائية وصدق وحماسة لكل فلسطيني "ينصر دينك"، فهل كانت رحلة الأغنية التي استغرقت ثلاثة أسابيع فقط بين تحضير وتسجيل وتوزيع وتلحين، كافية ليتحول هذا القول الحسن إلى غناء حسن، يرقى إلى مستوى الحدث؟!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها