الجمعة 2023/11/17

آخر تحديث: 12:35 (بيروت)

النضال الفلسطيني.. مركزية الفكرة وشتات القوة الناعمة

الجمعة 2023/11/17
النضال الفلسطيني.. مركزية الفكرة وشتات القوة الناعمة
الفنان بيومي فؤاد في "موسم الرياض"
increase حجم الخط decrease
ليس من شك في أنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة. وما من شك في أن السعي إلى مناصرة النضال الفلسطيني الاستثنائي بالفعل الجاد والقول المؤثر هو الهم الأول والشغل الشاغل لكل المواطنين الأحرار في الخريطة العربية، بمن فيهم طبقات المثقفين والمبدعين وحملة الأقلام وأصحاب الفكر والرأي، وسائر أطياف عناصر القوة الناعمة.

 

وليس مناسبًا أبدًا، في مثل هذا الظرف التوحّدي النادر بعد تصاعد الأحداث منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، القول بغير أن الحرب الجارية وتصاعداتها ونتائجها وتفاصيلها اليومية هي غاية اهتمام "الجميع"، بلا استثناء، وليس "الأكثرية" العظمى. إذ تبدو كلمة "الأكثرية" منطوية على تشكك، ومتضمنة استبعادًا حتميًّا لفئات أو حالات أو أفراد خارج منظومة التعبئة العامة الجارفة في المنطقة كلها.

ومثل هذا الاتهام بالتخوين أو بالتقاعس أو باللامبلاة، لا يملك أحدٌ إلصاقه بالآخر بالأدلة، ولا يجوز ترداده حتى من باب المزايدة الشكلية واللفظية على المواقف الوطنية، خصوصًا أن هناك مجالات وأبوابًا متنوعة، معلنة وسرية، تتيح لأي شخص مؤازرة المقاومة والشعب الفلسطيني بسبل وآليات متعددة لا تنتهي ولا تنفد، وليست بالضرورة في دائرة الضوء.

وسيبقى افتراض توفر حُسن النوايا لدى الجميع هو الأساس عند قراءة بعض الجوانب والملامح الظاهرة من سلوك المثقفين وشرائح القوة الناعمة خلال الفترة الأخيرة، في خضم التفجرات المصيرية الكائنة. فهل تكاتفت الجهود تحت لواء جُملة واحدة، عريضة محددة، هي "دعم الحقوق الفلسطينية، ومواجهة الاعتداءات الإسرائيلية"، وتوجهت طاقة المثقفين والقوة الناعمة العربية بشكل مكثف ملموس نحو تحقيق هذا الهدف الأصلي الأصيل الواضح، الذي يُفترض أنه هدف بديهي متفق عليه؟

الحقيقة المؤلمة، باختصار، أن تمحور عناصر الثقافة والقوة الناعمة، النخبوية والشعبية، الرسمية والأهلية، حول المسألة الفلسطينية كفكرة مركزية مجردة، لم يمنع انجراف بعض هذه العناصر، في أحيان ومواضع كثيرة، إلى الشتات والتشرذم والسطحية واللاجدوى والسفسطائية في ممارساتها الفعلية والقولية، الأمر الذي يؤدي في حصيلته بكل أسف إلى تفتيت الجهود وتقزيمها، وتمييع المواقف وتشويهها، وترويج النزعة العنترية في التلاسن وتبادل الاتهامات والتراشقات، والإفراط في إهدار الطاقة الخصيبة الخلاقة في منعطفات مسدودة، وقضايا موازية، ركيكة ومفتعلة وملفقة وفارغة.

لقد انزلقت جموع واسعة من المثقفين والمبدعين والفنانين والإعلاميين، وأعداد غير هيّنة من جماعات الضغط وصنّاع المحتوى الرقمي والترند وحيتان السوشيال ميديا ومستخدميها، تحت مظلة القضية الفلسطينية، إلى تلك الأمور الفرعية والأقل أهمية والهامشية والمختلقة، التي جرى تصعيدها لتبدو كأنها بديلة عن القضية الفلسطينية الأم نفسها، وعن كل ما يتعلق بها من نقاش جدلي مثمر، وأبجديات إيجاد حلول عملية وإيجابية وعادلة لها.

ولعله من الملائم لبعض الأنظمة العربية العاجزة والمغلوبة على أمرها والقليلة الحيلة، الترحيب بمثل هذه البيئة الساذجة المليئة بالصخب الأجوف، بل والعمل على دعمها وتعزيزها بواسطة الآلة الإعلامية والذباب الإلكتروني، وذلك درءًا للمشكلات المستعصية، ومنعًا لوجود انتقادات لاذعة للحكومات، ومساءلات شعبية لها بشأن عدم قدرتها على الفعل المأمول، وعدم أهليتها لاتخاذ خطوات حاسمة ناجزة لنجدة الفلسطينيين وردع المعتدين وحلفائهم الدوليين.

وفي مثل هذه الأجواء، الناجمة عن الاندفاع الحماسي واللا-واعي والتنافسي لدى معظم المشاركين فيها، والتي قد تُصنع أيضًا ويُلقى الزيت في نيرانها عن عمدٍ للتعمية على إخفاقات مؤسسات وإدارات وجهات بعينها، يصير هناك دائمًا شيء مثير سائد أو ترند طفيلي مدسوس يزاحم الحدث، ويسعى إلى التغطية عليه. ومع توغل هذا الأمر الموازي، وتوحشه، يتم شيئًا فشيئًا انصراف القاعدة الكبرى من المشاركين والمتابعين عن الأصل الجوهري الخطير الذي كان يجب الالتفات إليه، ويتزايد إمساكهم العقيم بالفروع الثانوية الهشة والبائسة، التي لا طائل منها بالنسبة للقضية المركزية.

وهكذا، مثلًا، فإن الذي ينتقد اللاعب محمد صلاح، في فايسبوك، بسبب بطئه في التعبير عن غضبه إزاء ما يجري في غزة، أو ينتقد الفنان بيومي فؤاد بسبب ذهابه إلى "موسم الرياض" وحديثه الهزلي في السعودية عن قيمة الفن، أو يدافع عن الفنان محمد سلام بسبب انسحابه من عمل مسرحي في السعودية تضامنًا مع الفلسطينيين، أو يُقدم على كتابة أي "بوست" (أو خوض معركة!) من هذا القبيل، يشعر لحظيًّا وكأنه بطل أدى دوره القتالي تجاه القضية، ويرتاح ضميره نسبيًّا، ويفرغ ما بداخله من شحنات غاضبة، وبالتالي لا تنصرف جهوده وتطلعاته وآماله إلى فعل النضال الحقيقي. وبالطبع، وهذا هو الأهم، لا يتجه وعيه وآراؤه ومناقشاته وتعليقاته إلى انتقاد سلبية الحكومات العربية، وتخاذل المسؤولين المنوط بهم اتخاذ القرارات والإجراءات التي ترد الاعتبار للفلسطينيين.

إن من الإيجابية بالتأكيد أن يعبر كل فرد عن رأيه بحرية، وأن يتحمل كل فنان أو لاعب أو شخص مؤثر مسؤولية قراراته واختياراته ومواقفه، المشرفة أو المخزية، فيلقى الثناء والإشادة إذا فعل ما تقتضيه الأخلاق والنخوة والواجب، ويلقى الذم والتوبيخ إذا فعل غير ذلك. لكن من غير الإيجابي أن تتخطى مثل هذه الظواهر حدودها، وتصير هي الواجهة التي تستقطب النقاشات والجدل والاختلافات، في حين تنزوي في الهامش القضية الفلسطينية والاعتداءات الإسرائيلية، وتبدو في الدرجة الثانية في سجالات المثقفين والفنانين وعناصر القوة الناعمة.

وعلى نحو مشابه أيضًا، تجدر الإشارة إلى أهمية مسألة مقاطعة المنتجات والبضائع الأميركية مثلًا أو الداعمة للاستيطان والاقتصاد الإسرائيلي، كإحدى وسائل الضغط الشعبي العربي على شركات الولايات المتحدة وحكومتها. لكن هذه المقاطعة حتى، على إيجابيتها وتأثيرها، يجب ألا تكون هي القضية التي تحل محل القضية الفلسطينية نفسها، فهي مجرد ورقة من أوراق دعم الفلسطينيين، وإيلام أعدائهم.

ولقد جرى تصدير هذه المقاطعة كحالة ترند أيضًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بوصفها نهاية المطاف وغاية الغايات في المعركة مع الكيان الإسرائيلي، فمن خاضها برئت ذمته، وذمة حكومته، من دماء الشهداء. وفي ذلك مغالطة بالطبع، لا تختلف عن مغالطة أخرى، وهي أن الأصوات التي تتبنى قدسية مقاطعة كل ما هو أميركي كحل وحيد وكافٍ للنيل من إسرائيل ورد الحقوق إلى الفلسطينيين، تمارس دعوتها تلك عبر منصة "فيسبوك" الأميركية، المنحازة علانية إلى إسرائيل، وربما عبر هواتف "آيفون" الأميركية، من دون أن تستشعر أي تناقض في سلوكها وفحوى دعوتها.

وبإيجاز أخير، فالفكرة المركزية المؤمنة بضرورة مواصلة النضال الفلسطيني، وفضح الممارسات التعسفية الإسرائيلية وإنهائها، هي فكرة متجذرة في أعماق كل مثقف ومبدع ومستنير عربي، وكل عنصر حر من عناصر القوة الناعمة. فلا يجب تجريف هذه الفكرة، ولا ينبغي صبها بعيدًا من القضية الأصلية المباشرة، في مشاهد عابرة عابثة يجري ضخها على الساحة دوريًّا لتشتيت الانتباه عن الكارثة الواقعة في غزة، والواجبات العربية الحقيقية اللازم بذلها لاحتوائها.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها