الثلاثاء 2023/12/19

آخر تحديث: 12:56 (بيروت)

شِعر المقاومة الفلسطيني.. ما الثابت وما المتحول؟

الثلاثاء 2023/12/19
شِعر المقاومة الفلسطيني.. ما الثابت وما المتحول؟
ضياء العزاوي
increase حجم الخط decrease
تبقى قصيدة المقاومة الفلسطينية حية نابضة، ما بقيت القضية قائمة متأججة، وما بقي الشعر قادرًا على أن يكون فنًّا للعربية. ولقد تطورت القصيدة العربية على وجه العموم، عبر أجيالها المتلاحقة، خلال السنوات الماضية، وصولًا إلى ما هي عليه الآن لدى أحدث تيارات قصيدة النثر، من المحيط إلى الخليج. وانسحبت هذه الانزياحات والتوترات الجمالية على الشعر الفلسطيني بطبيعة الحال، لكن من دون أن يفقد هويته الخاصة كشعر نضالي تحرري في المقام الأول.

ما "الثابت" وما "المتحول"، بالتعبير الأدونيسي،  في النص الشعري الفلسطيني المعاصر؟ الثابت ببساطة هو المحور المركزي لهذا الشعر، شاء أم أبى، وعى أم لم يكن واعيًا، وهو الواقع الفلسطيني الدامي، أو القضية الفلسطينية المصيرية، التي لا تزال متقدة الأحداث، مفتوحة الجراح، فهي قضية الوجود، وهي معنى الحياة، وجوهر الشعر، وأصل كل شيء. وهذا الثابت هو أرض الشعر التي ينبع منها، وينشأ في طينتها وخميرتها النشطة، ويقف عليها في فتوته وعنفوانه. ومن غير هذه التربة الضرورية، لا تكون للشعر بصمة، ولا تصير له ثمرات فعلية.

أما المتغير في القصيدة الفلسطينية المعاصرة، فهو ببساطة أيضًا ما يتعلق بعملية المعالجة الشعرية، أي الرؤية والصيغة وطبيعة اللغة والآليات التصويرية والتعبيرية وغيرها من لوازم الكتابة وعناصر التفوق والإدهاش.

فلقد صار تجسيد معاني المقاومة والنضال والبطولة والتطلع إلى الانتصار واستعادة الوطن الحر وما إلى ذلك هو الذي يجري بكيفية مختلفة عما سبق. وهذه الكيفية المختلفة في الشعر الفلسطيني الراهن لا تبتعد عن ما بلغته القصيدة الثورية بالمفهوم الناضج في الشعر العربي الحالي عمومًا. فهذه القصيدة العربية الثورية هي بحد ذاتها حالة تحرر من القيود، وتمرد على سائر الأنساق. وهي من حيث شعريتها وجمالياتها، كتلة ملتهبة من الوهج والانعتاق، والخروج عن المألوف، وكسر أفق التوقع، والنسج على غير منوال. 

وفي وقت غير بعيد، عندما كانت القصيدة العربية الثورية تدور في فلك الانتظام الخطابي والنبرات العالية، وسخونة القاموس اللغوي، واستدرار الشحن العاطفي والانفعاليات السمعية، وفق الموروث الإنشادي المنبري للقصيدة العربية التقليدية في زئيرها الحماسي، كانت قصيدة القضية الفلسطينية أيضًا لا تتعدى هذه الأطر البيانية المحدودة.

وحتى ذلك التفوق الذي كان محسوبًا للقلة من الأفذاذ من شعراء فلسطين، فإنه كان في معظمه تميزًا في الدرجة، وليس في نوع المنتج الشعري، الذي ظل عادة منتسبًا في طابعه إلى الظاهرة الصوتية النغمية، على غرار "تقدّموا تقدّموا/ كل سماءٍ فوقكم جهنمُ/ وكل أرض تحتكم جهنمُ/ تقدّموا/ يموت منا الطفل والشيخ/ ولا يستسلمُ" للشاعر سميح القاسم مثلاً، أو من قصيدة "الأرض" للشاعر محمود درويش "سنطردهم من إناء الزهور، وحبل الغسيل/ سنطردهم عن حجارة هذا الطريق الطويل/ سنطردهم من هواء الجليل".

ولقد اختلفت الأمور كثيرًا في معالجات الشعر الفلسطيني الجديد، فيما لم تختلف النزعات الداخلية، الظاهرة والخفية، نحو التحرر والتفجر والاستبسال والصمود والإمساك بالحياة واستعادة أرض الوطن المغصوبة. لكن قصيدة اليوم هي قصيدة التشرذم والتشظي وربما الفوضى واللاوعي، التي تتوازى مع المشاهد المفككة والمفخخة من حولها، من دون أن تنسى قضيتها الأم.

من ذلك، مثلًا، ما يصفه الشاعر غساق زقطان في خنادق مقاتلين "كانوا في الأصل شعراء علقوا في كمائن من القلق"، وما يحكيه عن "الجيش الذي نسيته الحرب في المدينة، الحرب التي نسيها الجنرال في الغرفة، الجنرال الذي نسيه السلام في نومنا، السلام الذي كان يقود الميركافا"، وكيف أنهم جميعًا هناك في مدن الجنون "ما زالوا يطلقون النار على رؤوسنا دون أوامر، هكذا بحكم العادة".

ويصوّر الشاعر فخري رطروط، حلمه بخيوط النور التي تنبع من كل ما هو فلسطيني، حتى من جثث الشهداء، وشواهد القبور، متسائلًا: "لم لا تتحول الجثث تحت التراب إلى جذور؟/ هل هناك مقبرةٌ في العالم تخلو من قبر فلسطينيّ؟/ الأيام الميتة، كم عدَدُها؟". وهو يسلك في قصائده مسارات غير مألوفة، ذات حس عجائبي وسوريالي وفوضوي، جامعًا في خيمة اللاوعي ما يتبقى من نثارات العالم، ومازجًا معاناته الفردية وكوابيسه وأشباحه بالهم الوطني العام والجرح الفلسطيني النازف: "أيّ رعب تراه الجدران كي تفقد ألوانها؟/ الفأر الذي يُخرْخشُ في رأسي، ماذا يريد؟/ ماذا تفعل دبّابة آخرَ الليل في غرفتي؟/ أين أختبئ؟/ المساءات مالحة". ولا يضع الشاعر حدًّا أبدًا لمشاهداته وتأملاته الطفولية القريبة، التي لا تخلو من توقع ميلاد أمل في الأرض أو في السماء "لماذا يُشِعُّ القمر؟/ هل القمر قرصُ أسبرين لهذه السماء المصابة بالصداع؟!".

وبدورهما، تمضي الشاعرتان فاتنة الغرة، وابتسام أبو سعدة، نحو استيعاب القضية الفلسطينية وهضمها وإعادة إنتاجها فنيًّا بما تتضمنه من معاني التحرر والتثوير والانفلات والتمسك بالأرض وانتظار الحصاد وما إلى ذلك، على نحو غير مباشر أيضًا. فمن جهتها، ترى فاتنة الغرة، في ما يرى النائم، مجدلية تفرش ضفائرها على مد البصر، فيما "يزرع الفلاحون‏ تعاويذ وأيقونات، ويحصدون في الوقت ذاته تمامًا خبزًا أسمر وإكليل شوك، وكان الوقت ظهرًا معتمًا، وكان ذلك شيئًا عظيمًا‏".

أما الشاعرة ابتسام أبو سعدة، فإنها تتخذ من الأنوثة معادلًا للخصوبة والأمومة والمخاض والميلاد والتجدد والتحولات والفيوضات وانتظار فجر جديد. وتتمدد فضاءات هذه الأنوثة لتشمل النساء والأرض والخريطة وعرائس البحر والأساطير وجميع مفردات الحياة وعناصر الثورة القادمة لا محالة "ستثمر من يدي ورقة/ سيزهر من بنفسجي ياسمين أبيض/ ستلد الدماء المنسيّة ثورة".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها