السبت 2016/09/17

آخر تحديث: 14:40 (بيروت)

برلين مدينة قابلة للإشتعال

السبت 2016/09/17
برلين مدينة قابلة للإشتعال
increase حجم الخط decrease
دائماً ما يباغتك سؤال الزائرين الدائم عما إذا كنا في الشرق أو الغرب. قد يبدو هذا سؤالاً مبتذلاً بعد أكثر من 25 عاماً على سقوط جدار برلين، لكنّ التقسيم القديم بين شرق وغرب لا يزال قائماً، على الاقل في وجدان اهل المدينة الذين يتابعون بإنبهار وذهول تحول مدينتهم الفقيرة إلى إحدى أهم عواصم أوروبا.
القادم حديثاً إلى برلين لا يدرك التغيير الكبير الذي طرأ على هذه المدينة خلال الأعوام الخمسة الماضية، والتي تزامنت مع الربيع العربي في صدفة غرائبية جعلت برلين النامية مركزاً جديداً للهاربين من قيظ حرائق الشرق الأوسط. برلين لم تحتضن اللاجئين السورين وحدهم، وإنما تحتضن الكثير من العقول العربية الهاربة من حروب وفاشية حكومات ما بعد الربيع العربي. 

إضافة الى ذلك، شهدت ألمانيا خلال العامين الأخيرين، موجات عودة لإسرائيليين من أصول ألمانيّة، واختارت غالبيتهم الإقامة في العاصمة الرخيصة لتوافر إمكانات السكن والسهر والعيش بأسعار معقولة مقارنة بغلاء المعيشة في إسرائيل. 

ناهيك عن أن برلين تعتبر أفضل أو بالأحرى أكثر مدينة أوروبية صديقة للمثليين جنسياً، مما دعا الإعلام الألماني للحديث دوماً عن عواقب هذا الخليط البرليني الذي لا ينفكّ يزداد تعقيداً، مع بروز السلفية في المدينة إلى الواجهة مؤخراً، بعد عودة عدد من الألمان من مناطق نفوذ تنظيم داعش ومشاركتهم التنظيم القتال. التواجد السَلَفي في المدينة أصيل وليس طارئاً بصعود نجم "داعش"، إذ تعتبر برلين عاصمة السلفية في ألمانيا إن لم يكن في أوروبا من قبل ظهور تنظيم "داعش". 

الفئة الأقل إشكالية من البرلينيين الجدد، هم المهاجرون الإقتصاديون الأوروبيون القادمون من دول أوروبا التي تعاني مشاكل إقتصادية تسببت او أطالت من أمدها بشكل مباشر او غير مباشر، سياسات برلين الإقتصادية، والتي ما زال الإقتصاديون ينتقدونها لضررها على أوروبا نفسها والإقتصاد العالمي بشكل عام. الإيطاليون والأسبان واليونانيون قاموا بموجات نزوح إلى مدن ألمانية كثيرة، كانت لبرلين فيها حصة كبيرة لرخص أسعار السكن فيها. المفارقة في هذا الخصوص هو أن غالبية القادمين إلى برلين كانوا ممن تضرروا من أزمة اليورو العام 2012، وتبعاتها على سوق العقارات داخل الدول المتضرر، إسبانيا على سبيل المثال، وهم الآن يساهمون في تضخم سوق العقار البرليني.

وبالرغم من أن هذا الخليط البرليني قد ينذر بصدامات تجعل المدينة قابلة للإشتعال، إلا أن ترجمته الحالية إلى نشاط ثقافي وسياسي قوي، ينبئ بأن هذه الإشتعال ليس بالضرورة أن يكون مدمراً. يبقى فقط أن يوجّه النشاط السياسي الإقتصاد لدمج الجميع تحت مظلة تضمن الرخاء الإجتماعي لكل هذه الفئات الصانعة لهوية المدينة الجديدة من دون تهميش. 

قد يراهن البعض على ان هذا الخليط البرليني قابل بالفعل للإشتعال بشكل مدمر للمدينة وهويتها التي تحاول الجمع بين هويات غير متجانسة. وهذا التخوف منطقي لكن الشواهد الحالية لا تدعمه. فعلى سبيل المثال، تبقى برلين إحدى العواصم الغرب-أوروبية القليلة التي لم يضربها الإرهاب. ومع أن الرأي السائد في عدم تعرض برلين لهجمات إرهابية من قبل جماعات اسلامية هو عدم تدخل ألمانيا بشكل بارز في صراعات الشرق الأوسط رغم أنها تملك نفوذاً استخباراتياً كبيراً في المنطقة، يبقى من المهم التركيز على عدم إقصاء المجتمع الألماني للفئات المختلفة فيه التي تنحدر من خلفيات غير ألمانية، بعكس المجتمع الفرنسي على سبيل المثال. 

بخلاف عاصمة أوروبية أخرى كباريس، لا يوجد في برلين ما يدعى "بالغيتو" لوصف أحياء يسكنها اشخاص من أصول مهاجرة، رغم وجود أحياء عربية أو تركيّة، لكن تبقى هذه الأحياء مفتوحة على الجميع، حيث يتشارك الجميع الشارع نفسه، وإنما في مواقع أو أوقات مختلفة. قد يبدو شارعاً ما، تركياً خالصاً في أول النهار، مع أسواق الخضار التركية والمقاهي الشرقية والأطفال الذين يتحدثون مع أمهاتهم المحجبات بلغات غير الألمانية. لكن مع إنقضاء النهار تتبدل الشخصيات التي تحتل هذه الشوارع لتعود العائلات من أصول مهاجرة لبيوتها، وتترك المجال لأهل السهر من مرتادي البارات ونوادي الرقص التي تتواجد في مناطق تعج بمَن هم من أصول مهاجرة ولا يبدو ان هذا يقلق سكينة أي من الطرفين.

تطغى على المدينة فكرة الحاجة لإحترام مساحات الغير - رغم فظاظة البرلينيين المعهودة - لكن هذا الإحترام للمساحة الشخصية للآخر، وبقدر ما يوفر فرصة للجميع للعيش بهدوء وحرية لا بأس بهما، فإنه أيضا يدعم فكرة العزلة والإنطواء الأوروبيّة في التعامل بين الأفراد. فبينما تجدد غالبية الفئات البرلينية الجديدة مساحة لعيش تجربتها البرلينية بخصوصيتها والتعبير عن ذاتها بلا خوف من (عنف) رد فعل الآخر تبقى هذه المساحة شبه مغلقة مع قلة التقاطعات بين الحلقات البرلينية المختلفة. 

تبدو غالبية النشاطات الثقافية المتعلقة باللاجئين في هذه المدينة، نشاطات سورية أو أفغانية خالصة مع مشاركة ألمانية من قبل المهتمين والناشطين بقضايا اللجوء والهجرة في غياب لتقاطع مع الثقافة الألمانية أو غيرها من الثقافات الصانعة لهوية برلين. 

برلين تقف أمام مفترق طرق لتشكيل مجتمع متعدد الثقافات على أرض أوروبية، لكن التحديات الأمنية والإقتصادية تظل أهم العوائق أمام هذا الحلم. لا نعرف ماذا سيكون رد فعل أهل برلين إذا ما تعرضت المدينة لعمل إرهابي. هل ستواصل المدينة تناغمها الفريد؟ أم ستُستثار العنصرية فيها؟ أما عن التحديات الإقتصادية، فمن السذاجة رؤية إرتفاع أسعار العقارات الجنوني في المدينة وعدم إستطاعة لاجئين الحصول على مساكن معقولة الاسعار داخل المدينة وإضطرار الكثير للإنتقال إلى الضواحي من دون توقع تغيير في ديموغرافية المدينة... الديموغرافية التي جعلت برلين على شكلها المتناغم الحالي الذي نحب.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها