السبت 2016/02/27

آخر تحديث: 16:45 (بيروت)

طريق "الخمير"

السبت 2016/02/27
طريق "الخمير"
ستقول الأرقام إن الغالبية كانت تعيسة في يمننا السعيد (غيتي)
increase حجم الخط decrease
أتذكر تماماً تلك الصباحات الباردة عندما كنت، وأختي، نذهب إلى المدرسة مشياً. كنا نمشي لأن والدتي المعيلة الوحيدة لنا، وإن تمكنت من دفع أقساط المدرسة الخاصة، فهي لم تكن تستطيع دفع تكاليف الباص – المبالغ فيها. كانت المدرسة قريبة، وفي طريقنا إليها كافيتيريا (او ما يسمى بالبوفية باللغة الدارجة في اليمن)، وتبيع "الخمير" وهو نوع من الخبز الحلو المقلي او ما اعتقد الآن انه النسخة اليمنية من "الدوناتس". كنا نشتري الخمير بمصروفنا الذي لا أتذكر أنه كان يكفي لأي شيء ونذهب إلى المدرسة فرِحتين به دافئاً بين أيدينا.

وعندما كانت حقيبتي المدرسية الثقيلة تخفف من سرعة سيري في طريق العودة إلى المنزل، كانت أختي تساعدني في حملها. لا أدري لماذا كان على طلاب الإبتدائية حمل كل تلك الكتب والدفاتر، وكأنهم يجب أن يتعلموا من البداية أن المعرفة حملها ثقيل. ثقيل على الظهر والقلب.

يقول شاعر اليمن، عبدالله البردوني: "فظيعٌ جهل ما يجري وأفظعُ منه أن تدري". من الفظيع معرفة ما يجري الآن في اليمن ومن الأفظع معرفة أن هذا البؤس اليمني ليس بجديد. كل مآسيك الخاصة والآلام و خيبات الأمل التي بقيت تحملها على ظهرك منذ الطفولة، تتبدّى عندما تعرف أن الجميع لم يكونوا محظوظين بقدرك. وعندما تحترف الأرقام التي تستعيض بها عن القصص الشخصية، لا يصبح وقع المأساة أخف، وإنما أوضح.

لا أحتاج لصديقٍ عدني كي يحكي لي كيف أن عدن عاشت ثلاث حروب أهليّة دموية، في خلال عقود ثلاثة فقط، ولا تكاد تتعافى من حرب حتى تشتعل التالية. لا أحتاج لصديق كان مغترباً في السعودية، كي يحكي لي كيف أن مليون يمني تم ترحيلهم من دون ممتلكاتهم الشخصية، خلال حرب الخليج، فقط لأن علي عبدالله صالح ساند صدام حسين. لا أحتاج لحكايات أمي النوستالجيّة عن الثمانينات السعيدة، عندما كان شمال اليمن يعيش فترة رخاء إقتصادي، لم تتكرر حتى يومنا هذا. الآن لدي الأرقام التي تثبت ذلك كله.

الأرقام تشرح مدى البؤس اليمني. نسب البطالة، التضخم، النمو السلبي، متوسط سن الزواج، عدد الوفيات بسبب أمراض ممكن علاجها، نسب التسرب من المدارس، نسب الفتيات خارج النظام التعليمي، عدد الأطفال المصابين بسوء التغذية، عدد الحروب الأهليّة، عدد القتلى بسببها، عدد الأسلحة في البلاد، وغيرها من الأرقام التي لا تقول لماذا نحن بائسون هكذا. ربما لأن أحداً لا يهتم بهذه الأرقام أساساً.

أرى أطفال اليمن اليوم وهم لا يحملون حقائب مدرسية، بل أوعية لنقل الماء أو إسطوانات الغاز. الأكثر بؤساً يحملون كراتين المساعدات الغذائية ويتسلقون جبال تعز المحاصرة، هم والحمير التي صارت وسيلة النقل الأساسية في تلك المدينة. لا كهرباء لتسخين المياه في هذا الشتاء، وربما أصبح "الخمير" ترفاً في ظل شبح المجاعة. هؤلاء هم المحظوظون الآن. أما البقية فيتم إنتشالهم من بين الركام.

أفكر في الأرقام المرعبة التي نقرأها كل يوم وسنقرأها لأعوامٍ مقبلة. بعد عشر سنوات من الآن، ستقول الأرقام لليمنيين كيف أن الحياة ظلمتهم، بل تجاهلتهم، أطفالاً كانوا أو بالغين. ستقول لهم كيف كانوا خارج المعادلة وخارج الزمن، في زاويةٍ جنوبية، بعيداً من اهتمام أي أحد، يخوضون عذاباتهم الشخصية التي تتضخم كل يوم.

لكن ما الفائدة؟ ما الفائدة من جمع كل هذه الأرقام، الصور، الأخبار، والمعلومات. ربما كي يعلم الناجون أنّه كانت لهم صحبة كبيرة وسط هذا العذاب الكبير الذي يعيشونه خلال الحرب، أو عاشوه في أوقات السِّلم الكاذبة. سيكبر أطفال اليمن ليعرفوا أن حمل أوعية الماء وإسطوانات الغاز وكراتين المساعدات الغذائية، ليس جزءاً من الطفولة. وسيكبر مراهقوها ليعرفوا أن القتال ليس من متع الشباب والصبا. لكنهم سيرون أيضاً أنهم لم يكونوا وحيدين. ستقول لهم الأرقام أن الغالبية، إن لم يكن الجميع، كانت تعيسة في يمننا السعيد.

أما نحن، من نرى أن الحياة ظلمتنا كأطفالٍ كبروا في أعوام الإنهيار الإقتصادي اليمني في تسعينات القرن الماضي، فتقول لنا الأرقام أن الحياة رغم قسوتها علينا آنذاك، فإنها قست أكثر على الأجيال اللاحقة. تقول الأرقام أن فرص نجاتنا من كل المآسي اليمنية، كالأمّية والمرض والوقوع ضحية حرب أهلية، كانت ضئيلة جداً. لكنها تحققت.

أفكر في ذلك فيما أتأمل الأعجوبة التي تركتني، أنا وأختي، نمشي إلى مدرستنا ونشتري "الخمير" بتلك الطمائنينة الأبدية بيننا، بأنه مهما كانت تلك الصباحات باردة، فالخمير سيدفئنا. الأعجوبة التي نجّتنا من أن ندفن تحت الركام في حرب صيف 1994. وبقية الأعاجيب التي لم تجعلنا رقماً من تلك الأرقام اليمنية الحزينة. ومع إمتناني للحياة التي، بحسب الأرقام، لم تدع مجالاً للكثيرين للإمتنان لها، لا أملك إلا أن أفكر في فظاعة أن ندري كل ذلك.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها