الجمعة 2016/03/04

آخر تحديث: 07:50 (بيروت)

النازحون ومعايير ألمانيا الاخلاقية

الجمعة 2016/03/04
increase حجم الخط decrease


لم تبالغ انجيلا ميركل، مستشارة الجمهورية الإتحادية الألمانية، عندما صرّحت بأن أزمة اللاجئين الحالية هي أكبر أزمة تواجهها ألمانيا منذ الحرب العالمية الثانية.


بعد سنوات من سياسات يعدّها البعض سياسات رد فعل، تجد ميركل نفسها أمام تحدي المبادرة والقيادة. قيادة ألمانيا خلال أزمة إن إستمرت قد تؤدي إلى إنحلال التحالف الحاكم وربما الذهاب إلى إنتخابات مبكرة. وقيادة أوروبا خلال الأزمة نفسها كدليل على الوحدة الأوروبية يشكّل عِقداً إجتماعياً جديداً لأوروبا الموحدة، التي يبدو ان شيخوختها وخلافاتها الماليّة تساهم في تآكلها شيئا فشيئاً.


هذه الخلافات المالية التي لم تهدد سلطة ميركل -على الأقل داخلياً- عندما سحقت هي وحليفها آنذاك وغريمها الحالي ولفغانغ شويبله (وزير المالية) أحلام اليونانيين في الخروج من مستنقع الإقتراض الذي لازالت اليونان غارقة فيه. يومها أصرّت ميركل على جميع شروطها لإصدار حزمة مساعدات ثانية لليونان رغم خروج اليونانيين في إستفتاء يحتفل بأحد أهم القيّم الأوروبية وهي الديموقراطية ليعلن اكثر من 60% منهم رفضهم لشروط المقرضين المذلّة.


لم تكن شعبية ميركل وقتها مثاراً للنقاش لا بل تعززت ثقة الألمان في أن ميركل لن تسامح اليونانيين على يورو واحد من أموال دافعي الضرائب أو حتى من المستثمرين في الديون اليونانيّة من أبناء شعبها. والشعبية هنا ليست مقياساً لأي شيء سوى "رضى" عموم الناس عن سياسات المستشارة بشكل شخصي تصوغه المخاوف والإعجاب بقدرتها كسياسية على مجابهة تلك المخاوف "الشعبية" لا على أخلاقيتها في التعامل مع مخاوف كهذه.


تعود تلك المخاوف "الشعبية" للواجهة مع قدوم حوالي مليون لاجئ إلى ألمانيا خلال عامٍ واحد. مخاوف من "أسلمة" المانيا كما يحب اليمين المتطرف وصفها. ومخاوف أكثر إلحاحاً متعلقة بتكاليف إستقبال مليون لاجئ التي لابد وأن يموّلها المواطن سواء عبر ضريبة او تقشف حكومي في أحد او عدد من جوانب الرعاية الإجتماعية. في كلا الحالتين يبدو ان من لا يوافقون على سياسة ميركل غير المعادية -على الأقل- للاجئين لا يودون مشاركة اللاجئين جزءاً زهيداً من الثروة التي جمعتها اوروبا بشكل كبير على حساب معذبي الأرض غير الأوروبيين.


في وقت تبتعد فيه أوروبا وأمريكا الشمالية أكثر وأكثر عن الهموم والمشاكل الجامعة لبقية سكان هذا الكوكب كالفقر والمرض وانعدام الحرية وتستغرق في فلسفة مظاهر ما بعد الحداثة وإيجاد أساس أخلاقي لاشكال تمرد علمي وإجتماعي وجعلها جزءاً من التيار العام كحيازة وتعاطي المخدرات، أبحاث الخلايا الجذعية، أو الموت الرحيم وما غير ذلك، لا تملك أوروبا ترف غض الطرف عما يحدث في الشرق الأوسط بعكس أمريكا واحياناً بريطانيا، اللتين تتمتعان ببعد جغرافي ليس باليسير يسمح لهما بالتعامي عما يحدث في مناطق نفوذهم وكأنه لا مسؤولية تقع على عاتقهما حيال من يتضررون من نفوذهم هذا.


المأزق أخلاقي بالفعل. حتى وإن بدأت شعبية ميركل في التعافي وصعدت من 45% إلى 48% خلال أسبوع فإن عدم أخلاقية من تخلوا عن ميركل عند تطبيق اكثر سياساتها اخلاقية خلال سنوات حكمها العشر قد ظهرت. الحديث عن "الأخلاق" في ما يتعلق بأزمة اللاجئين هو من صلب الأمور لا هوامشها. تحاول النخبة السياسة ببراغماتيتها جر الحديث دوما إلى التحديات والمخاوف. وهو حديث يجب خوضه في كل الأحوال إنما من دون إهمال فحص معنى وجود ازمة لجوء بهذا الحجم في زمن كهذا على هذه القارة بوجه التحديد.


في لقائها الأخير على القناة الأولى تحدثت ميركل عن العنف الرهيب الدائر على أبواب اوروبا وعن المعرفة الألمانية بويلات الحروب ونيرانها كجزء أصيل من التاريخ الألماني. تحدثت عن الرغبة في الحفاظ على أوروبا موحدة وواجب أوروبا بإظهار الإنسانية تجاه الآخرين. حافظت المستشارة على سردية إنسانية مستمرة لدور أوروبا وألمانيا ودورها هي حيال هذه الأزمة.


حديث ميركل وشعارها "سننجح في ذلك"، الذي يبدو للوهلة الأولى فضفاضاً، لايخلوان من بعدٍ فلسفيّ وأخلاقي لتصورها لحل للأزمة ويتطابقان مع حديث المؤرخ الألماني فيليب بلوم بأن على أوروبا تشكيل مخيّلة جديدة تستطيع من خلالها تصوّر حلول لأزمة اللاجئين بإعتبارها علامة فارقة في تاريخ القارة بعد الحرب الحرب العالمية الثانية وجعلها فرصة لصنع حلم جديد جامع للأوروبيين يحقق مبادءهم الأخلاقية ليس فقط لهم وإنما للإنسانية كلها. حتى شويبله الذي يعارض سياسات المستشارة  الداخلية المتعلقة باللجوء صرّح في قمة دول العشرين بشنغهاي بأن "ألمانيا انقذت خلال ازمة اللاجئين شرف أوروبا".


وفي جولة بسيطة في شوارع برلين وغيرها من المدن المليئة باللاجئين يدرك المرء كم أنّ إنسانيته محل إختبار وينطبق هذا أيضاً على السياسيين. ساسة الوسط ممزقون حالياً بين الأخلاقي والسياسي. فقط اليمين المتطرف ممثلاً في حزب "البديل لألمانيا"، الذي إرتفعت شعبيته لتصل 10% كحزب "الخضر"، يعرف تماماً ما هو "الحل" الذي يصبو إليه، وهو ترحيل من دخل ومنع الداخلين الجدد حتى وإن إقتضى ذلك إطلاق النار عليهم.


في اللقاء نفسه سُئلت ميركل إذا ما كانت "ساذجة" عند إنتهاجها سياسة الترحيب باللاجئين. قطعاً لم تكن المستشارة ساذجة في عدم إغلاقها الحدود في وجه من هربوا من جحيم الحروب. يكفينا تصوّر رد فعل العالم إذا ما أغلقت ألمانيا - سيئة السمعة مع الغرباء- الحدود في وجه اللاجئين كما تفعل بريطانيا مثلاً اليوم ولا يبدو ان الكثير يعترضون على لاإنسانية ولاأخلاقية السياسة البريطانية.

ربما كانت المستشارة ساذجة في توقعها ان يفلسف المزاج العام أزمة اللاجئين ويقيس تفاعله معها بميزان الأخلاق. عموم الناس محكومون بمخاوفهم لا بأخلاقهم، يصوتون لمن يضمن لهم اكبر قدر من المنفعة "المالية" ولفترة غير بسيطة كانت ميركل كل ما يحلم به العامة.

ما تغيّر الآن هو أنّ ميركل تعي تماماً وتتصرف بما تقتضيه اللحظة التاريخية الفارقة وقد يكلفها هذا الكثير.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها