السبت 2015/05/30

آخر تحديث: 18:25 (بيروت)

نزهة في المقابر

السبت 2015/05/30
نزهة في المقابر
مقابر ستوكهولم.. حدائق "بتشهّي"
increase حجم الخط decrease

يبدو أنّ إشكالية المقارنات التي تحكمُ عقليةَ البشر الطارئينَ على مكانٍ ما، تحتاجُ وقتاً طويلاً لتخبو، وتحلّ محلّها عقلية التعاملِ مع المكانِ بذاتِه بمعزلٍ عمّا يشبهُ أو لا يشبه. ورغمَ أنني اجتهدتُ خلال عامينِ من الحياة في ستوكهولم لأمنع نفسي عن المقارنة، إلا أنني ما زلتُ أسقطُ في هذا الشرك، وهوَ ليسَ كارثياً على أيّ حال!

مواعيدُ كثيرة جمعتني بأصدقاء في مقابر ستوكهولم، يبدو التنسيقُ لها مضحكاً وغريباً: ما رأيكَ أن نشربَ قهوةً في المقبرة؟! حسناً، نلتقي في المقبرة!

لكنّ الأمرَ لم يكن ثقيلاً على النفسِ، ذلك أنّهُ ليسَ في هذه البلاد ما يسمّى مقابر، إذ يُطلق على مكانِ دفنِ الموتى هذا اسم (kyrkogård)، وهيَ كلمةٌ تعني ترجمتُها الحرفيّة: حديقة الكنيسة. إذاً، ليسَ من داعٍ لخوفٍ يفرضُهُ الإسم.

والمقبرة حقيقةً لا تختلفُ عن اسمها، فهي حدائق بالفعل، نظيفةٌ معتنى بها، منسّقةٌ أشجارُها وأكاليلُ زهورها، بلا أيّ فوضى. ولولا الخشية، لسَهُلَ عليّ إطلاق التوصيفِ المحكيّ على المكان: "بيشهّي"، لكنّهُ مقبرة على أيّ حال، ولا يُمكنُ اشتهاءُ مقبرة!

كانَ عليّ أن أجتهدَ كثيراً للتصالحِ مع فكرةِ التنزّه في مقبرة. فقد أتيتُ من منطقةٍ لا تدفنُ موتاها، بل تتركهم في توابيتهم الخشبية مصفوفينَ على مصاطبَ إسمنتية تشكّلُ صندوقاً مفتوحاً داخلَ غرف صغيرة. ليسَ ذلكَ فحسب، ففي قريتِنا ذاتِ الأغلبيةِ المسيحيةِ الكاثوليكية، والأقلية الدرزية، يُجهّزُ الحيّ لموتِهِ قبلَ حدوثه. وإن فاتهُ ذلكَ، يتكفّلُ ذووهُ بالأمر بعد وفاتِه. فإذا كانَ الشهداءُ يدفنونَ بثيابِ مقتلهم، فإنّ أهلَ قريتي، دروزاً ومسيحيين، يختارونَ بعنايةٍ ثيابَ موتاهم التي سيُدفنونَ مُرتدينها.

جدّتي لأبي مثلاً، كانت تحتفظُ ولسنواتٍ طويلةٍ، بكيسٍ في خزانتِها يحوي "ثياب الموتة" كما كانت تسميها. فيهِ كلّ ما سترتديهِ حينَ تموتُ لتدفنَ فيه. حتّى أنّها لم تنسَ الصابونَ الذي سيُغسلُ به جسدُها، بل والعطرَ أيضاً. وكانت حريصةً أن تدلّنا جميعاً، وتدلّ بناتِها وحفيداتها على وجه الخصوص إلى مكانهِ، وتُكثرُ وصاياها خشيةَ أن تنسى إحداهنّ شيئاً قائلة: "انتهبي .. بكرا عالعجقة بتنسي!".

ميتٌ بثيابٍ كاملة، ولا يوارى التراب إنما ينتقلُ "لحياةٍ أخرى" في غرفةٍ شأنُه شأن الأحياء، ويعيشُ وسطَ تجمعِ سكانيّ بينَ أحياءٍ وأموات. كلّ هذا يجعلُ الموتى في منطقتنا غير ميتين تماماً بالنسبةِ لنا، نحنُ الأحياء!

كنتُ في العاشرةِ من عمري عندما انتقلتُ مع أهلي للسكنِ في القرية. عشنا في بيتِ جدي الذي كانَ متاخماً لمقابر القرية. لا يفصلهُ عنها سوى شارعٍ صغير، ومما يعلقُ في ذاكرتي من تلك المرحلة، صوت بكاءٍ مصحوبٌ بكلماتٍ غير مفهومة، تطلقُهُ امرأتان من نساءِ القرية.

"رمزيّة"، كانت امرأةً مسنّةً ليس لها في العالم سوى شقيقٍ وحيدٍ توفّيَ منتصف الثمانينات، فظلّت تندبهُ عندَ قبرهِ لعقدٍ من الزمن، ويُحكى أنها كانت تدخلُ القبرَ/الغرفة، وتغنّي لهُ وتمشّط شعره، ولم تكفّ عن ذلك إلّا حينَ وجدت جلدةَ رأسهِ في يدها بعد أن نالَ التفسّخُ من الجثة!

والسيدةُ الأخرى كانت "أمّ غالب"، التي توفّيَ ابنُها الوحيد في حادثِ سير مروّع، وظلّت وحيدةً في منزلها حتى خروجي من سوريا منذ قرابة الثلاث سنوات. صوتُ السيدتين رافقَ سنواتِ طفولتي، حتّى شكلهما في الطريقِ إلى المقبرة، فقد كانتا تترافقان في الذهاب والإياب بحكم الجيرة!

وازدادت المسألةُ صعوبةً، حينَ أخذني بعضُ فتيةِ القرية في رحلةٍ "مقبريّة"، بل وأصرّوا أن نختلسَ النظرَ من شقوقِ الأبواب الصغيرة لنرى حياةَ الموتى! وقد حدثَ بالفعل، فرأيتُ نموذجاً مصغّراً لـ"المضافة" التي تعتبرُ من أساسياتِ البيوتِ في السويداء. المصاطبُ الإسمنتيةُ ذاتُها، الصندوقُ المفتوحُ ذاتهُ، لكنّ من في الداخلِ ليسوا سوى موتى!

لا أحدَ يعلمُ على وجهِ الدقّة سبب هذه المفارقةِ بينَ المقابر، وهل الخوفُ من المقبرةِ هناك، والتآلفُ معها هنا، سببُهُ شكليّ فقط؟ أم أنّ الموتَ هنا ليسَ مخيفاً أصلاً، وهوَ جزءٌ لا يتجزّأ من الحياة؟!

على أيّ حال، حتى في بلادنا، يبدو أنّ القدرَ شاءَ لمن سيعيشونَ في المقبل من الأيام، أن يتخلصوا من الخوفِ الذي تبثّهُ المقابر أو الموت، فالموتُ لم يعد أمراً استثنائياً ولا حدثاً طارئاً، وسيحتاجُ وقتاً طويلاً ليستعيدَ مكانتهُ التي فقدها.

وتالياً، فقد باتَ كثيرونَ لا يجدونَ مقبرةً ذات معالم واضحة يُدفنونَ فيها، فالأرضُ كلُّ الأرضِ تصلحُ لهذه المهمة، والأرضُ لا يمكنُ أن تسببَ الخوف!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها