الأربعاء 2018/01/31

آخر تحديث: 11:39 (بيروت)

غنّوا: يا بشار مثلك مين!

الأربعاء 2018/01/31
غنّوا: يا بشار مثلك مين!
الطائرة الغنائية إلى سوتشي
increase حجم الخط decrease
يحارُ السوريُّ في نوع المشاعر التي تحتل وجدانَه، إثر مشاهدة الفيديو الذي انتشرَ في مواقع التواصل الاجتماعيّ لوفد "حكوميّ" مشارك في مؤتمر سوتشي، لمناقشة مستقبل البلاد!
يعرضُ الفيديو مذيعة التلفزيون السوري رين الميلع وهي تطلبُ من الركاب، الذين من المفترض أنهم ذاهبون للتفاوض، الغناء معها، في سبيل ترطيب الأجواء المشحونة، جرّاء عظمة المبتغى وأهميّته. فيبدأ المستيقظون منهم الغناء: بكتب إسمك يا بلادي، عالشمس الما بتغيب... في مشهدٍ مهيب!

بين ركّاب الدرجة الأولى، يظهرُ الفنان سعد مينه والفنانة سلمى المصري، يرددان الأغنية بشجن. كيف لا، وهما ذاهبان لكتابة تاريخ سوريا الحديث، بعدما ساهما مساهمة بالغة في الفعل ذاته في مرحلة شديدة الحساسية، قبيل خروج المستعمر الفرنسي، وبعد ذلك في مرحلة الانقلابات العسكرية ونشوء الحركة السياسية الحديثة في سوريا، عبر المسلسل الخالد "حمّام القيشاني"، حيث جسّدت السيدة سلمى شخصيّة "امتثال"، زوجة المجاهد والسياسي الشهيد منير القناديلي، الذي استشهد في عدوان 29 أيار الفرنسي على دمشق. بينما كان سعد مينه (عزّ الدين القناديلي المعروف بـ"عزّو") في مقتبل مشواره الفنّي، عندما استمالهُ الفنّان توفيق اسكندر الذي جسّد شخصيّة المناضل "عمران المسكاوي" إلى الفكر الشيوعي، وأبلى معهُ بلاءً سياسيًا حسنًا حينذاك. ورغم أنّ سعد مينه تركَ زميلهُ يتابعُ النضال وحده، مع مطالع الثورة السورية العام 2011، حيث انتشرت صور كثيرة للفنان اسكندر يقاتل في صفوف ميليشيات النظام، إلّا أنّ ذلك لا يُشكّلُ عائقًا أمام اختيار مينه للتفاوضِ حول مستقبل بلاده، مشفوعًا بتاريخٍ نضاليٍّ طويل!

يظهرُ أيضًا الملحّن طاهر مامللي، يجاورُ نائماً يلفُّ رأسهُ بقماشةٍ بيضاء، لم تُعرف هويّتُهُ حتى اللحظة! مامللي لم يظهر مشاركاً زملاءه الغناء، لأسباب مجهولة هي الأخرى. لكنّ مراقبين يرجّحون أن طبقات أصوات الحاضرين، وخاماتهم هي التي تشغلُ رأس الموسيقار، إن لم يكن يُفكّرُ بمقطوعة موسيقيّة تناسبُ الحدث، حيث تميّزَ الفنُّ الموالي للنظام السوري بأنه يواكبُ دائماً الأحداث.. فمَن مِنّا ينسى أغنية الفنان وفيق حبيب: الكيماوي؟!

الأمرُ ذاتُهُ في مقصورةِ "عامّة الشعب"، الشجونُ والعواطفُ تطغى على كل شيء. تطغى على المؤتمر نفسه، بل وعلى سوريا بأسرها!

إذًا، كثيرة هي مصادرُ الحيرة في نوعيّة المشاعرِ التي تُصيبُ السوريّ وهو يرى مستقبل بلاده المفترض، ومستقبلهُ، بين أيدي هذا الرهط.

مساء 12 نيسان2012، اعتقلت قوى أمنيّة تابعة للنظام السوريّ، مجموعة من الشباب والنشطاء، من أمام مبنى مجلس الشعب في دمشق، إثر مشاركتهم في اعتصامٍ سلميّ صامتٍ، كان من ضمن حملةٍ أُطلقت آنذاك، حملت عنوان: "أوقفوا القتل... نريدُ أن نبني وطنًا لكل السوريين".

شاءت الأقدارُ أن كنتُ من بينِ هؤلاء. وبعدما استوفى الباص ركّابهُ، انطلق بنا إلى حيثُ لا نعلم. كانت الساعةُ قد تجاوزت السابعة مساءً، وكنا أكثر من عشرين معتقلًا. وما إن وصلنا إلى ما سنعرفُ لاحقاً أنهُ كان الفرع الـ40، استقبلنا عدد من العناصر الأمنيّة يكادُ يوازي عددنا، بالضرب المبرّح، مستخدمين كلّ ما قد يتخيّلهُ عقلٌ من أساليب وأدوات للتعذيب والضرب، قبل أن يسألنا أحدٌ عن أسمائنا أصلًا. استمرّ الاحتفالُ ذاك حوالى أربع ساعاتٍ، أسترجعها اليوم، كما لو كانت أربعة عقود!

حين انتهت مراسمُ حفلة الاستقبال، كان معظمُنا على وشكِ الانهيار. دماءٌ في كلّ مكان. بولٌ ودمٌ وقيء، وثياب ممزّقة وأجساد مهترئة، وعقول تترنّح في برزخٍ يفصلُ الحياة عن الموت. أخرجونا بعد كلّ تلك الساعات، إلى الحافلة مجدداً، وكالعادة، إلى حيث لا نعرف. كنتُ في المقعد الأخير من الباص، أغالبُ الانهيار، شأني شأن بقية زملائي، عندما وصلني صوتُ أحد العناصر من المقدّمة، يطلبُ منّا أن نغنّي. نُغنّي؟!

أرادَ أحدُنا أن يحافظَ على صلابتهِ، فبدأ بترداد نشيد "موطني". لم يكد ينهي جملتهُ الأولى حتى جاء صوتُ العنصر من المقدّمة مجددًا: "لا... غيرها". حاولَ الزميلُ التملّص، وبدأ يغنّي النشيد الوطني السوريّ، وانضممتُ إليه بصوتٍ يكادُ لا يخرجُ من فمي. فأوقفنا العنصرُ مجددًا: "غنّوا يا بشّار متلك مين!"

غنّينا...
وظللنا نُغنّي إلى أن خرجنا من سوريا، خاسرين، مهزومين، مُحمّلين بمهانة أبديّة، لا تشبهها مهانة، ولا يوازيها ذُلّ. وحين وصلنا إلى مستقرّنا، في البلاد البعيدة التي بإمكاننا الغناء فيها للحياة، صمتنا. وبدأنا مراحلَ العلاج من سوريا الأسد.

وتركنا، كما يليقُ بالخوَنة، عزّ الدين القناديلي وعمران المسكاوي والسيدة امتثال، يُحاربون الإرهاب بالغناء، ويكتبون اسم بلادهم على الشمس الما بتغيب بمفردهم!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها