الجمعة 2018/09/21

آخر تحديث: 16:26 (بيروت)

بيلزوفوبيا

الجمعة 2018/09/21
بيلزوفوبيا
increase حجم الخط decrease
بلغت نسبة الذين مارسوا حقهم في التصويت في الانتخابات السويدية الأخيرة، حوالى 85% ممن يحق لهم الانتخاب. نسبةٌ مرتفعة جداً، قياساً للأرقام التي نطالعها في دول كثيرة حول العالم، وتعكس من دون شك إحساس السكان بالمسؤولية تجاه مصير بلادهم وأبنائها.


كل التيارات السياسية في البلاد، بما في ذلك حزب "ديموقراطيو السويد" القومي، ذو الطابع العدائي للمهاجرين، تطرح برامجها وفق قاعدة واحدة، ورؤى متعددة لهذه القاعدة: مصلحة السويد. وكلٌّ يراها من زاويته. هذا يجعل السكان على اختلاف انتماءاتهم السياسية، مهتمين بالانتخابات بشكل حقيقي. ونسبة 85% تعطي انطباعاً بأن السويديين يتعاطون مع الانتخاب على أنه واجب أولاً. وهو ما يختلف، لفظياً على الأقل، عن الجملة الشائعة في بلداننا: حق الانتخاب!

كنت من بين الـ15% في المئة الذين لم ينتخبوا في السويد. يحق لي، كحامل للإقامة الدائمة، بعد مرور ثلاث سنوات على إقامتي، أن أصوت في انتخابات المقاطعات والبلديات. وقد تكون هذه أكثر أهمية من مجلس الشعب، لشدة قربها من الحاجات الأولية والأساسية للناس. غير أني لم أنتخب أحداً. ترددت في بادئ الأمر. لم أشعر برغبة في المشاركة، وهذا كان كافياً للحؤول دون الذهاب. لن تذهب إلى الانتخابات مجاملة لأحد هنا على أي حال.

لكني حين رأيت حماس بعض الأصدقاء، في اليوم الأخير، قررت الذهاب، إلا أني لم أجد بطاقتي الانتخابية. لا أذكر أني رأيتها بين أوراق البريد، وهي كثيرة جداً، وترتيبها يشبه عقوبة أمهاتنا لنا في طفولتنا حين كن يجعلننا نرتب خرائب غرفنا، وقد اعتدنا أن نترك الأمر لهن!

والحال أن السويد تتميز بنظام شديد الصرامة والدقة والانضباط، لا يخلو من ثغرات، تشبه متنفسات ضئيلة للغرائز البشرية المتعلقة بالتحايل على القانون. وتتميز أيضاً بكونها بلداً ورقياً بامتياز. الأوراق هي صلة الوصل بين المواطن والدولة. فالأشجار كثيرة جداً، وسنوياً تقوم البلديات بقطع قسم منها للأغراض الصناعية، وللحفاظ على نسبة معينة من الأشجار ضمن الثالوث المُشكِّل لهذه البلاد: الماء، الغابات والأبنية. ولا أحد يعرف على وجه الدقة أي الكفتين مرجحة في ميزان حسنات وسيئات الأشجار! إذ يتحول الورق، ذو السمعة الرومانسية في موروثات الآداب والفنون في كل العالم، إلى فواتير وتهديدات ضريبية وإنذارات، وغيرها.

تنتهي تماماً في السويد تلك العلاقة الودية مع الورق، والشخص الذي كان يحتفظ بأصغر قصاصات الأوراق في بلادنا، ليس الشخص المناسب للحياة في كوكب "أسوج" هذا.

كنت قد أخبرت الأصدقاء قبل مدة أنني بصدد كتابة نظرية في علم النفس الاجتماعي، أسميتها: "بيلزوفوبيا". وهو اسم منحول من كلمتين انجليزيتين: Bills أي فواتير. والفوبيا، الرهاب. والحقيقة أن الموضوع فعلاً يستحق التوقف، إذ تشغل الفواتير حيزاً كبيراً جداً من تفكير السكان، الأصليين والمقلدين المستوردينْ، نحن!

وعلى الرغم من فوارق جوهرية في تعاطي الدولة وموظفي مؤسساتها مع الناس، بين السويد وسوريا، فضلاً عن مناخ ليس عدائياً على الإطلاق من قبل أي مؤسسة حكومية سويدية تجاه الناس، خلافاً للمناخ العدائي الذي يتربص بالمواطن داخل كل دائرة حكومية في سوريا... إلا أن الخوف شعور لا تحده جغرافيا، وهو يتنقل مع البشر في حلهم وترحالهم. الخوف، الذي يشغل حيزاً كبيراً من تكوين السوري منذ خمسين سنة، يشغل حيزاً كبيراً من تفكير السويديين أيضاً، هو الثابت وحوله تتغير الجغرافيا والأسباب.

الفواتير تصل كرسائل بريدية هي الأخرى. ها قد تحقق حلمنا وصارت لدينا صناديق بريدية، نتفقدها يومياً، وصار بإمكاننا أيضاً أن نضع عبارات على صناديقنا مثل: لا إعلانات، شكراً. غير أني لم أفعل هذا، إذ تبقى الإعلانات هي الرسائل الوحيدة التي أتلقاها ولا تحمل أذىً! أفتح صندوق بريدي، أتفقد رسائله ذات الظروف البيضاء، والطوابع الرائعة القيمة، أفتحه بشكل أنيق كما لو أني أنتظر رسالةً من صديق قديم، مستخدماً أداةً معدنية لفتح الظروف البريدية (وقد بحثت عن اسمها باللغة العربية في الإنترنت فلم أجد، مما يؤكد انقراض الأشياء أيضاً).

أتعامل مع الموضوع برومانسية عالية، أو فلنقل إني كنت كذلك حتى فترة قريبة. حيث بدأت مؤخراً أقتنع بأن الرسائل البريدية التي ستصلني في السويد ليست رسائل فلسفية تناقش "الاستشراق" من زاوية علم نفس الجماعات مثلاً، ولا هي غرامية، ولن تكون على الأرجح. وهي لن تتعدى كونها فواتير عليّ دفعها في أقرب وقت ممكن، ورميها على الفور في القمامة مع إخفاء ملامح معلوماتي الشخصية، وانتهى الأمر!

هذا هو البريد هنا. وهو سبب كاف كي لا أجد نفسي مضطراً لفرز الرسائل البريدية، فهي بالنسبة لي إعلانات أو فواتير. ولم أجد الوقت الكافي مؤخراً لممارسة هوايتي في مطالعة آخر إعلانات المتاجر وصيحات التنزيلات!

بهذه السهولة يمكن أن تضيع بطاقتي الانتخابية، ويضيع معها حقي في الانتخاب، من دون أدنى شعور بالحزن. المهم أنه صار بإمكاننا أن ننتخب، وألا نذهب للانتخابات لأسباب سخيفة!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها