الإثنين 2022/08/29

آخر تحديث: 19:16 (بيروت)

الأجساد المنعتقة

الإثنين 2022/08/29
الأجساد المنعتقة
في أحد المنتجعات الشاطئية جنوبي بيروت (غيتي)
increase حجم الخط decrease
نتشارك، صغارًا وكبارًا، التوقَ إلى الانعتاق، عندما يحضر في بالنا الذهاب إلى البحر.
لا تبدو القدرة على السباحة من عدمها، مسألة حائلة دون فرط الحماسة عند الاستعداد لرحلة تلفّها صورة متخيلة عن راحة "مطلقة". إنه وهمُ الارتياح من كل الأعباء التي تراكمت خلال الفصول السابقة. وهذا افتراض قائم على أن التردد على البحر في غير فصل الصيف، ليس نفسه خلال الموسم المكرس رسمياً، وعليه ختم وكالات السياحة والسفر. لكنه أيضًا، تصور مبني على أن الوجهة الأساس هي الشاطئ، الرمل والخضرة، لا المرافق البحرية والمسابح، فهناك لا يوجد انعتاق، بل سلاسل من المفاهيم الاجتماعية، والطبقية، والجسمانية، والجنسية، وبشكل خاص في لبنان.

تحضر بعض الذكريات عن أوقات عند شاطئ البحر في ذلك البلد، قبل التاريخ الرسمي لانتهاء الحرب، حينما كان التخفف، رغم كل الواقع آنذاك، متاحًا، وتمضية الوقت على البحر، للفرد أو المجموعة، تعني أن فسحة من الزمن الرقيق ممكنة، رغم الهموم. أما الراسخ من الذكريات عن الفترة اللاحقة، بعدما أُحكمت القبضة على المساحات الواسعة، وبُنيت مجموعة من القيم في صروح هذه المرافق، فثقيلة. هي ذكريات من انتفاخ كبير لكل شيء، ليس للأثداء والشفاه، فهذا ليس حصرًا في لبنان وليس مذمة لمن رغب، لكنه تضخم هائل من تعاظم المفاخرة بكل شيء... هو الانسحاب الطبيعي للمُعاش على اليابسة إلى الأحواض الجديدة. يأتي إلى المسبح، مدير المصرف مثلًا، بالحلة الصيفية، ليتشارك الشمس والماء من موقعه الاجتماعي مع آخرين، عليهم بدورهم أن يظهروا ماهيتهم الوظيفية، المهنية والجنسية، حينما يتشمسون أو يسيرون في أرجاء المسبح لقضاء حاجة أو لعرض أحدث مايوه، أو آخر عضل جرى نفخه.

عملية استعداد الذاهبين إلى الشاطئ، في أي مكان غير لبنان، إجراء ورحلة في حد ذاته، آلية دقيقة من التخفف في كل سماته، إلى حد الذهاب بملابس البحر نفسها. والأطفال هم الأكثر وعيًا بجوهر هذا الفعل من خلال إصرارهم على ارتداء "المايوه" فقط لا غير، مثلًا، ومتى تمكنوا من خلعه عند أول فرصة سانحة، ما عادوا ليقبلوا بارتدائه. إن التمسك بالعري بالنسبة للأطفال منزوع منه الطبقات الجنسية التي تتراكم في الأذهان وفي الأجساد، على مر المراحل المختلفة، لدى الكبار. إنه التعبير الأفصح عن الغاية من الرحلة.

في فسحات الشواطئ غير العربية، يكاد الكبار والصغار يتشاركون هذا السعي إلى إلقاء كل الحمولات عن كينونتهم، منذ لحظة الاستعداد لهذه الرحلة، وحتى العودة منها.

صحيح أن الاحتفالية ليست معدومة لناحية الاهتمام بسلة الطعام أو بالقبعة المرحة، أو الحذاء الصيفي المنسق مع ثوب البحر أو النظارات الشمسية، لكنها سَلِسة كحوار مع الذات، تُتبادل فيه المتعُ الشخصية لإرضاء النفس والمزاج، لإرضاء الأنا، لا لإقحام الآخر في دائرة من العنف المتواصل، لمبارزات لا طائل منها ولا قدرة له على الخوض فيها.

فحينما تهم الأجساد لملاقاة الماء، لا تتلفت حولها لتطمئن إلى أنها منظورة أولًا، وبالشكل الذي تسعى إليه ثانيًا. لا انتصار يسجل هنا، لا لمن ارتشق، ولا لمن أرخي عضله. ويبدو الساعي إلى القيلولة على الرمل، جاداً وصادقاً في ملاقاة الوقت الغافل، فلا يرتفع الجسد متحاملًا رغم استلقائه، طالبًا للجنس أو عارضًا له، على غرار ما تبدو أجسام الرجال والنساء في لبنان وهي مرمية على كراسي الشمس في المسابح.

لا يعني ذلك أن مرتادي الشاطئ الأوروبي، مثلًا، لاجنسيون. إنهم وافدون عليه رجالًا ونساء ومثليين أو أصحاب هويات جنسية أخرى، لكن هوياتهم أو أهواءهم الجنسية، كما وظائفهم المهنية، ليست شرطًا للحضور ولا ضرورة لأي كسب معنوي في هذا الحيز. هذا ليس طبيبًا ولا عاملًا، ليس موظفًا ولا رجل أعمال، هذه ليست ربة منزل مغمورة ولا صاحبة شهرة واسعة. هم، على الشاطئ، عراة قدر الإمكان.

لا مكان للمناطحة الاجتماعية والجنسية. هنا، الدعوة للانفراد وسط الجَمعة، سواء جئت إليها لوحدك أو مع مجموعة، للإفلات من قيود الأسبوع، وتخدير آلام العقد غير المتصالح معها. هنا مجال ليقلِّدَ المرء جاره في التزام الصمت، أو السير إلى أبعد بقعة وسط الماء، يحيي معها، وسط الضجيج المتواصل قبل هذه اللحظة، الظنَّ بأن الصفاء ممكن.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها