السبت 2021/11/27

آخر تحديث: 15:44 (بيروت)

عالقون عند دين الرئيس

السبت 2021/11/27
عالقون عند دين الرئيس
increase حجم الخط decrease
"جنّي يا قرداحة جنّي.. بشار أسد صاير سنّي"... قبل نحو عشرين عاماً تداول بعض السوريين شائعة انطلاق هذا الهتاف في مظاهرة احتج خلالها علويون على زواج رمز هيبتهم "سيادة الرئيس" بأسماء الأخرس ابنة الطائفة السنية.

كانت مفارقة أن تظهر فكرة هواجس التنافس الطائفي بهذا الشكل! مظاهرة مزعومة تنتشر قصتها على متن أهزوجة انفعالية في قالب موسيقي بدائي. وللمصادفة، فقد ضمت عوامل إقناع ملفتة، فكلمة "أسد" جاءت بدون "الـ" التعريف، لتؤكد أن الهتاف صادر عن أصحاب "مَونة" وأبناء ملّة واحدة. ومع إطالة الكلمة لتصبح "آسااااااد" وصوت التصفيق الإيقاعي المرافق المتخيل، علقت الشائعة في أذهان سامعيها، من دون أن يعكرها تساؤل حول إمكانية التظاهر ضد "الرئيس الأمل" آنذاك.

هذه الشائعة لم تكن مختلفة عن القصص الأخرى التي تطلقها أو تستفيد منها المخابرات السورية بهدف قياس الرأي العام على نطاق واسع أو ضيق. غير أن رصد موقف الناس تجاه "دين الرئيس" كان موضوعاً حساساً في بلاد يحكمها نظام يستخدم لعبة التوازنات الطائفية بذكاء.

منذ ذلك الحين، اختفت قصة "المظاهرة العلوية" في زحمة تحولات فاقت قدرة سوريا على الانتقال إلى الخطوة التالية. وعقب ضياع فرصة التغيير خلال الحراك الشعبي العام 2011، تسارع دخول الجميع في طور التوحش، وبدت مرحلة "ما بعد حاجز الخوف" وكأنها عملية ضغط عشوائي هستيري على كل الأزرار الموجودة في لوحة التحكم بهذا البلد. مجازر دموية، تهجير، تعذيب، وسلسلة من المآسي التي حلت بالسوريين وكان لأبناء الأرياف والضواحي السنية النصيب الأسوأ فيها.

حقيقة يستحيل تجاوزها بلا شك. لكن ما علاقة ذلك بمظاهر ثورية تطورت من هزلها المفرط إلى جديتها الفاقعة، حتى ثبتت الصورة التي ساقها الأسد بحق الثورة:"حراك طائفي"؟

"بشار أسد إيراني شيعي، بهرزي كاكائي، بشار صلى العيد خطأً".. ولائحة تطول لانتقادات ترفع كثيرون عن مناقشتها بجدية! هكذا، إلى أن قام النظام بإلغاء منصب المفتي، وتشكيل مجلس فقهي يضم "علماء" يمثلون المذاهب كافة، فحدث الزلزال في البيت السني السوري المعارض! بيانات وإدانات لـ "أخطر الجرائم بحق سوريا وشعبها وهويتها العروبية والإسلامية".

في الشكل، لا خلاف على أن تقليداً عريقاً ذا أبعاد اجتماعية وسياسية تغير واستبدل. لكن هل يفسر العجز وانسداد أفق التغيير ما عاشته الهيئات الثورية السنية من غليان؟

في مواقع التواصل الاجتماعي توجد تعبيرات مبعثرة، يمكن أن توصف بـ "الشعبية" تعكس جرح "الأكثرية". ورغم ذلك، فإنها لم تظهر المجلس الإسلامي السوري كصوت للمسلمين السنة من سكان المخيمات وبلدان اللجوء ومناطق النظام. ففي الواقع كانت تنديدات المجلس بإلغاء منصب المفتي في مكان آخر، وشكلت محاولةً لتسخين الرؤوس الباردة بطريقة أقرب لأسلوب أي "يوتيوبر" يتوسل التجييش عبر تعطيل عقل المشاهد، وتحويله إلى بحر من الأدرينالين!

بالتعمق أكثر، يتضح أن التنديدات بعثت أيضاً برسالة إلى العواصم الإقليمية زايدت على نظام الأسد في مسألة الهوية السورية، خصوصاً مع التوقعات بحراك ديبلوماسي أكبر نحو سوريا العام المقبل. إنها الثقة في الحضور وفي تمثيل غالبية السوريين تلك التي تجعل هيئة ذات صفة دينية تنشط وتطلق مواقف متتالية في كل الاتجاهات، بينما تنام المعارضة السياسية.

وبوجود هذه الثقة، ستستمر مخاطبة المشاعر الطائفية بالتأكيد. ورغم ذلك، يجب ألا تفوت المخاطبين حقيقة أن العالم كله تغير، وأن قيم الأديان والثقافات أصبحت سلعاً في سوق تتبادل فيه الشركات وأجهزة الاستخبارات الخدمات. وعليه، فإن المفاتيح القديمة لتحريك الجموع ستنتهي صلاحيتها بعد حين. ومثلما لم يعد مجدياً تجييش أتباع المذهب الشيعي (من خارج دائرة التجنيد المالي الإيديولوجي) بمزيج من مفاهيم "المقاومة والعرض ومأساة آل البيت"، فإن الأمر ذاته ينطبق على قسم من أهل السنة والجماعة العرب الذين بدأوا محاولات تجديدية نقدية وفقهية. لذلك فإن الرهان على اختزال المُسلم السوري في دور الضحية المؤبدة، وحبسه في دور "الفاتح المجبول من عصبيات وغرائز" هي أساليب سيتراجع مفعولها مع الوقت.

الأمر أبعد ما يكون عن التنجيم والتخمين والتحليل. إذ تكفي نظرة سريعة إلى المنطقة العربية، في الفترة الماضية، لرؤية محاولات الانعتاق من وصاية رجال الدين المتسلحين بحكايات "المسلم المستضعف في أقاصي الأرض".

تنافرات وتيارات تتصادم في البيت السني الواحد، فكيف هو حال أبناء التيارات الفكرية والإثنية والطائفية من معارضين شعروا بالغدر بعد اكتشافهم أن وجودهم في الثورة كان ديكور للكيانات الإسلاموية؟ بماذا فكر الدرزي والإسماعيلي والمسيحي والشيوعي والقومي السوري حين عرف أن أعظم شرف قد يناله في "سوريا الثورة" هو صفة "متعاطف ساعد السنة على تحصيل حقهم التاريخي"؟!

عشر سنوات خرج بها الجميع بالعبر والدروس، وفيها مضت الجماعات والتيارات السورية نحو وجهات جديدة بحثاً عن انتماءاتها. ومن لم يكفر بهويته السورية بعد، قرر العودة إلى الجذور السريانية، أو الذهاب أبعد في الانغلاق والشوفينية، أو الانخراط في تيار سياسي في المغتربات. المهم عدم الانشغال بهواجس علوية أو سنية أو غيرها إزاء دين الرئيس، وعدم انتظار الفتاوى الوطنية الصحيحة من شيخ أو كاهن.

هو ليس مجرد رد فعل على "المقلب" الإسلاموي، وإنما قناعة أيضاً لدى كل صاحب رؤية علمانية بأن القليل أو الكثير الذي لديه من قيم المواطنة والتعددية يغنيه عما سيمنحونه إياه أصحاب مشاريع الخلافة من حقوق وحريات يملكها أصلاً في بيته. 

حقائق يبدو طرحها متأخراً، ويمكن تداولها ببساطة لولا وجود واجهات مدنية يحيط بها الإسلاميون السوريون أنفسهم، تتولى تلطيف منطقهم الفئوي بأسلوب حضاري وبتنظيرات "احترام الخصوصية". لكن التعويل على هذا الستار الدخاني لا يفيد في المدى الطويل، بما أن الناشطين يتقلبون بين حدين: "مباركة الدروشة والطيبة الجماهيرية الصانعة للمعجزات، ثم شتم سذاجة المتدينين منتقدي السلوكيات المتحررة".

وكلما زاد نشاز هؤلاء أثناء عزفهم سيمفونية "التآخي والتضامن"، عاد المشروع الإسلاموي إلى حجمه، بحيث لا يبقى له سوى السعي العلني للتحكم بقاعدته الشعبية المتآكلة، واللعب على مخاوفها. في تلك الحالة سيسهل توقع خيارات الجمهور عند الوصول للحل السياسي: "تريدون دولة ديموقراطية علمانية يتساوى فيها الجميع؟ أم نظاماً ديكتاتورياً تفرض فيه طائفة رؤيتها وتحدد دين الرئيس؟".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها