السبت 2022/09/24

آخر تحديث: 00:20 (بيروت)

فقدان الوجهة.. الذاكرة في المدينة

السبت 2022/09/24
فقدان الوجهة.. الذاكرة في المدينة
تجهيز تفاعلي بعنوان "قصر الذاكرة" للفنانة إيس ديفلن
increase حجم الخط decrease
حطّت بي الطائرة... وهِمتُ. وجدتني عائمة، فاقدة للوجهة، زمانًا ومكانًا. أعرف هذا الشعور، غالبًا ما نختبره حينما نستيقظ من النوم أو لحظة خروجنا من الطائرة. وكأنما النوم هو العيش خارج الزمان والمكان المتفق عليهما واقعيًا، والطائرة هي الجسم الذي يخطفك منهما أيضًا ويخادعك بليل ونهار وفق ما تقتضيه الرحلة.

"Disoriented" أو فاقدة الوجهة... سرعان ما تلمست ذلك، ولا جديد فيه، فلماذا القلق؟

يمكن استدراك المكان والزمان خلال ثوان، أو تدريجيًا خلال فترة وجيزة، بعد أن نكون غالبنا الجهد لكي نلم شتاتنا من يقظة بعد نوم، أو لاستعادة الانتباه لحظة وطئنا صالة تدقيق الجوازات. هذا التشتت الخاطف، بقدر ما قد يبدو مربكًا، فإنه في الوقت نفسه مفيد لأجسامنا الآلية وأذهاننا البليدة. إنه الإشارة إلى أن قطعًا ما حصل، وأن وصولًا أو عودة حلَّت بعد ذهاب.

أعرف هذا كله... أقول في سري، لكن حدسي ينبئني أن لهذا الضباب الذي يلف رأسي، والذي لم تبدده صفاء فكرة واحدة بعد... أن لذلك غرابة مختلفة هذه المرة. هكذا، حملت تشتتي ومضيت في أيامي. ووجدتني، كلما سألني أحدهم عن حالي، أسحب من جيبي ورقة الإجابة وأشير إليها بالقول: Disoriented.

يتعاظم أثر الصدام كلما جهدنا للعودة إلى التوازن، لا سيما إن كان الهروب المستمر على خط واحد باتجاهين هو ما نجيده، أو ببساطة لا نعرف غيره. نسمي الارتحال انتقالًا، والقطع تغييرًا، ونصقل مهارتنا في تسمية الأشياء بغير مسمياتها ونمضي... فاقدين للإحساس بوجهتنا، مشوشين، مرتبكين...

لكن كيف نعود من هذا الانفصال المقتضب فيما لو حللنا في مدينة بلا ذاكرة؟ كيف نتيقن أن الحروف تخرج من أفواهنا على النحو الصحيح؟ ربما، في هذا الحيز المستقطع من كل شيء تقريبًا، لا يهمّ. لا أحد يكترث أصلًا لما تقوله، كما لو أن الكلام لا معنى له في المدن المرسومة على صفحات بيضاء.

وهل للمفردات معانٍ أصلًا من دون أصواتها… الأوتار شبه متقطعة، والهمهمة تحدث بين الساعين إلى اختراع الهواء، لتمضي سلسةً رغم احتباسه بين الأبراج العالية وضوضاء المنعشات المصطنعة.

يجب ابتكار الهواء، وإلا فإن تنشّقه لن يكون ممكنًا، بل إن تقفي أثره مهمة شبه مستحيلة، وهي السعي المثير بحد ذاته الذي قد يضفي معنى على كل ما تخطه في يومياتك، لتصنع الحكايات والذاكرة.

وطأة المدينة لا تُحتمل من دون ذاكرة... تهمس لنفسك بأن السعي لتشكيل منمنمات من وقائع وضحكات وأحاسيس رطبة، سيمنحك ذكريات تجعلك أكثر ثباتًا حينما تزورها مرة ثانية. ستوفر لك نقاطًا مرجعية، تعيد من خلالها تعريف هذه المدينة كغيرها من المدن حيث تحدث الحياة، بفرحها وألمها. تخفف بالذاكرة الوليدة فقدان الوجهة... فسيكون لك حينها أن تحل بها وتجتاحك الكآبة أو يطير بك الأمل إلى مقر إقامتك. حينها أنت، في الحالتين، واثق من لقاءِ وجهةٍ شعورية تصنف لك ما ترى، تضعه في سياقه، تعرف لك المآزق المحتملة والانفراجات المأمولة. مواجهة تعيد إلى الاتجاهات معناها، تخبرك أن البوصلة بحلوها ومرّها متاحةٌ، فما من داعٍ لبقائك ساهيًا.

تتلون المدن بالشمس وبفيئها... أي لون لمدينة الشمس أكثر ما فيها، قرص ثابت لا تعاكسه الأشجار، أي لون لابتسامتي... أُسأَلُ عن اختفائها وأَحارُ في الإجابة... وكأن الشمس تسطع ولا تماريها أسناني، ولا تعكس أنوار المساء محاولاتي المتواضعة لرسمها.

حتى هذه الحيرة والابتسامة الساهية، فتات يضاف إلى مزيج يعدُّ برفق لذاكرة ما... وقد يكفيني هذا القليل لأستعيد الوجهة، بملمس الوقت ويقين المكان.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها