الإثنين 2024/03/25

آخر تحديث: 14:46 (بيروت)

بعد القوّات وأمل: "التيار" ينضم إلى حفلة جنون المصارف

الإثنين 2024/03/25
بعد القوّات وأمل: "التيار" ينضم إلى حفلة جنون المصارف
صندوق تحاصصي يعرض ثروة الشعب اللبناني للبيع الجماعي في عز الانهيار (عباس سلمان)
increase حجم الخط decrease

تقدّم تكتّل لبنان القوي أخيرًا بمشروع قانونه الرامي إلى "حفظ أصول الدولة وإدارتها"، والذي يفترض أن يستحدث "الصندوق الإئتماني"، الذي لطالما تحدّث عنه رئيس التيّار جبران باسيل، من دون تقديم أي إيضاحات. فكرة المشروع، وإن اختلفت المسميات والعناوين والأشكال الإداريّة، هي في جوهرها مشابهة للمشروع الذي تحمله القوّات اللبنانيّة وحركة أمل: تحويل بعض ودائع المصارف إلى إلتزامات على أصول الدولة أو الدولة نفسها. أو بصورة أوضح، تحميل الشعب اللبناني، الذي سيسدّد رسوم هذه المرافق العامّة، كلفة الخسائر المصرفيّة، بدل التعامل مع هذه الخسائر من خلال عمليّة إعادة هيكلة شاملة وعادلة للقطاع المصرفي.

قبل الدخول في تفاصيل مشروع قانون التيّار، من المهم الإشارة إلى حساسيّة توقيت التقدّم بمشروع القانون. إذ اختار التيّار دخول الحلبة وطرح مشروعه بالتوازي مع تشكيل اللجنة الفرعيّة النيابيّة، التي تعمل على دمج مشروعي أمل والقوّات، وبعد أن نجحت المصارف في فرملة مسار البحث في مشروع قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي. بهذا المعنى، اختار التيّار اللحظة المناسبة لدخول حفلة الجنون التي يقودها اللوبي المصرفي، والتي تدفع باتجاه تبنّي طرحه المُعلن منذ عام 2020، أي تحويل الودائع إلى ديون سياديّة بدل معالجة خسائر القطاع. وفي جميع المشاريع المطروحة حاليًا، من أمل والتيّار والقوّات، تختلف الأطر التنظيميّة المقترحة، لكنّ "كل الطرق تؤدّي إلى روما": إلى فكرة جمعيّة المصارف.

تجريد الدولة من أصولها
بمجرّد تأسيس الصندوق، ستنتقل إليه ملكيّة جميع أصول الدولة اللبنانيّة التي يعددها مشروع القانون، والتي ستتحوّل فورًا إلى شركات مساهمة لبنانيّة "تخضع لقواعد القانون الخاص، وتحوّل ملكيّتها إلى الصندوق".

وستشمل ملكيّة الصندوق على سبيل المثال: مؤسسات المياه ومصلحة نهر الليطاني، كهرباء لبنان، شركات الاتصالات ومن ضمنها أوجيرو والهاتف الثابت والبريد، جميع المرافئ والمطارات، إدارة حصر التبغ والتبناك، طيران الشرق الأوسط، كازينو لبنان، إنترا ومصرف الإسكان ومؤسسة ضمان الودائع، مشاريع أليسار ولينور، تلفزيون وإذاعة لبنان، بالإضافة إلى المدن والمنشآت الرياضيّة ومنشآت النفط ومعرض رشيد كرامي الدولي.

المثير للدهشة في هذا التعداد، هو أن مشروع القانون يشمل العديد من المؤسسات المملوكة من القطاع الخاص بشكل جزئي، مثل مؤسسة ضمان الودائع ومصرف الإسكان، أو من مصرف لبنان بصفته تاجرًا كشركة طيران الشرق الأوسط وكازينو لبنان وإنترا. فبأي صفة، أو مقابل ماذا، ستستحوذ الدولة اللبنانيّة على ملكيّة هذه المؤسسات، قبل نقلها إلى الصندوق الإئتماني الموعود؟

وعلى أي حال، لا يحتاج الأمر إلى كثير من البحث قبل اكتشاف المّراد من إنشاء هذا الصندوق. فالقانون الذي يحمل عنوان "حفظ أصول الدولة وإدارتها"، والذي يحظر –لهذا الغرض- "بيع أي أسهم أو حصص في الصندوق"، سرعان ما يعود ويفتح الباب أمام بيع الأسهم في الشركات العامّة المملوكة من الصندوق. هكذا، سرعان ما يتحوّل مشروع جبران باسيل بأسره إلى صندوق لجمع الأصول العامّة وعرضها للبيع بالجملة، بعد تحويلها إلى شركات مساهمة تخضع لقواعد القانون الخاص.

مجلس ملّي يقرّر مصير ثروة شعب
عمليًا، من المعلوم أن القوانين اللبنانيّة تتضمّن أساسًا قواعد واضحة لاستثمار الأصول العامّة وتشركة القطاع الخاص فيها، ومنها تلك التي تنص على استحداث هيئات ناظمة ومتخصّصة في قطاعات محدّدة، مثل الاتصالات والطاقة. غير أنّ المختلف هنا، هو أن الصندوق سيفتح الباب أمام كل هذه الأصول في إطار واحد، برعاية مجلس إدارة مكوّن من المدراء العامّين في مديريّات الماليّة والأشغال العامّة والموارد المائيّة والكهربائيّة والاقتصاد والنقل والإنشاء، بالإضافة إلى مديري الاستثمار والتجهيز في وزارة الاتصالات.

هكذا، سيكون بإمكان المجلس هذا، المكوّن من سبعة مدراء عامّين، الموافقة على بيع أي من الأصول العامّة التي يملكها الصندوق في المستقبل، عبر بيع "أسهم الشركات" التي يملكها الصندوق. إذًا، هو مشروع تحاصص جماعي لمرافق الدولة وأصول القطاع العام، من دون الارتباط بالرؤى القطاعيّة المتخصّصة، وبعيدًا عن تعقيدات الهيئات الناظمة ومشاريعها. مجلس ملّي من سبعة مدراء عامّين، يمثّلون طوائف البلاد وقواها السياسيّة، سيوقّعون على مصير ثروة شعب وأمّة، بموجب مشروع قانون من ثماني صفحات. مع الإشارة إلى أنّ مشروع القانون الذي يلحظ "القوانين المقرّة" لهذه الغاية، يعطي الصندوق أيضًا صلاحيّة إقرار وتعديل الأنظمة الخاصّة بالشركات المملوكة من قبله.

خديعة رد أموال المودعين
الغاية المعلنة من الصندوق، هو تحسين الإيرادات الناتجة عن الأصول العامّة، وذلك لتحقيق ثلاث أهداف: 30% من العوائد سيتم تخصيصها لمؤسسة ضمان الودائع، لرد أموال المودعين، و35% منها ستُخصّص للخزينة العامّة، بينما سيتم تخصيص 35% من العائدات " للمناطق الجغرافية الإدارية المنشأة، بموجب تنفيذ اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة". على هذا النحو، سيصبح للمشروع بُعد مناطقي مرتبط بمشروع اللامركزيّة، وفقًا لرؤية التيّار الوطني الحر التي عبّر عنها رئيسه جبران باسيل.

أمّا عن كيفيّة رد أموال المودعين بموجب المشروع، فهو عبر إنشاء سجل خاص للودائع، يجري بموجبه "شراء" الوديعة من قبل مؤسسة ضمان الودائع، كي "تحل مؤسسة ضمان الودائع مكان المودع في علاقته مع المصرف". لتبسيط المسألة: سيتخلّص المصرف من إلتزامه للمودع، وسيتم تحويل الوديعة إلى إلتزام على مؤسسة ضمان الودائع. وفي المقابل، سيصبح المصرف مدينًا لمؤسسة ضمان الودائع في المستقبل، بدل أن يكون مدينًا للمودع.

ثمّة لائحة لا تنتهي من الأسئلة حول قدرة المشروع على معالجة الأزمة المصرفيّة، كما يدّعي واضعوه. إذ أن معظم المؤسسات المشمولة بالمشروع تطغى على نتائجها الماليّة حاليًا الخسائر، لا الأرباح. بل إن جمع هذه المؤسسات في صندوق واحد سيخلق كتلة ضخمة من الخسائر، لا العائدات. فكيف يتوقّع أصحاب الفكرة أن يسدد المشروع الودائع من خلال 30% من عائدات الاستثمار أو الخصخصة؟ وكيف سيسمح الإطار الإداري الجديد بتحويل النتائج الخاسرة إلى نتائج مربحة بمجرّد إنشاء الصندوق؟ هل سيتمكّن مجلس ملّي من سبعة أفراد من قلب المعادلة؟

هذا ما يقودنا إلى النتيجة البديهيّة: حصيلة الصندوق لن تكون "حفظ" الأصول العامّة أو رد الودائع، بل على العكس، التفريط بهذه الأصول بعرضها للبيع في عمليّة خصخصة شاملة، في عزّ الأزمة. وإذا كان حُسن إدارة الأصول كفيل بقلب المعادلة، وعبر أطر التشركة مع القطاع الخاص، فما هي القيمة المُضافة التي يحققها الصندوق هنا، الذي لا يعكس سوى خفّة مفرطة في تناول الجانب الإداري من المشروع؟ وعلى أي حال، من المعلوم أن قيمة الأصول التي نتحدّث عنها، لا توازي في أفضل الحالات وأكثرها تفاؤلًا أكثر من 14% من قيمة الودائع، التي يدّعي أصحاب المشروع حرصهم على إعادتها.

أخيرًا، من المهم الإشارة إلى أنّ خلاصة المشروع العمليّة ستكون تحويل خسائر المصارف وإلتزاماتها للمودعين، إلى ديون معلّقة على الشعب اللبناني. وهذا ما سيدفع ثمنه المودع، إذا ظلّت الديون معلّقة في الهواء ولم تسدد، أو الشعب اللبناني إذا ارتفعت رسوم استخدام المرافق العامّة لزيادة عوائد الصندوق. وهنا يُطرح السؤال: ما هو الموجب القانوني الذي يفترض أن يحمّلنا، كمودعين أو دافعي ضرائب، هذه النتيجة، مقابل تملّص المصارف من استحقاق إعادة هيكلتها؟

مشروع الصندوق الأسود
المشكلة الأساسيّة في المشروع، هي أنّه لا يؤسّس لأي انتظام مصرفي في المستقبل، لكونه لا يعالج الخسائر بالفعل، بل يستبدل إلتزامات المصارف للمودعين بإلتزامها لمؤسسة ضمان الودائع. أما المودع، فسيصبح دائنًا للمؤسسة بانتظار عائدات الصندوق الموعودة. بهذا المعنى، سيبقى القطاع المالي منهكًا بكتلة ضخمة من الخسائر، وسيبقى حق المودع مربوطًا بنجاح مشروع خصخصة أصول الدولة ومرافقها. وثمّة ما يدفعنا للسؤال: أي استثمارات، وأي خصخصة مربحة، ستجري في ظل وضع اقتصادي كالذي نشهده اليوم؟ هل سنستقطب كبار الشركات الدوليّة المحترمة في عمليّة الاستثمار، أم الغربان المحليّة التي تترقّب التهام جيفة الدولة اللبنانيّة خلال الأزمة؟

ثمّ نطرح أسئلة أكثر جديّة: عن مستقبل البلاد بعد الدخول في حفلة جنون المصارف، ومراكمة هذه الديون العامّة مقابل أصول الدولة، وهو المشروع الذي حذّر منه كل من صندوق النقد والبنك الدولي. وعن مستقبل الاقتصاد اللبناني بعد الإطاحة بإمكانيّة التفاهم مع صندوق النقد والدائنين الأجانب، بمجرّد الدخول في مشروع الصندوق الأسود المطروح. أمّا الأهم، فهو السؤال عن المخاطر التي ستهدّد أصول مصرف لبنان في الخارج، بمجرّد ضرب استقلاليّته الماليّة، وربط خسائر القطاع المصرفي بماليّة الدولة وأصولها.

بطبيعة الحال، يحتاج اللبنانيون إلى تطوير الأطر الاستثماريّة، التي تسمح باستقطاب رساميل القطاع الخاص في كل قطاع أو مرفق عام، وهذا ممكن من خلال تفعيل وتحسين الخطط القطاعيّة الموزونة والمدروسة. لكنّ هذا المسار لا يتحقّق بإنشاء صندوق تحاصصي يعرض ثروة الشعب اللبناني للبيع الجماعي في عز الانهيار، ومن خارج أي رؤية أو دراسة اقتصاديّة. كما لا يتحقّق من خلال المشاريع المتسرّعة، التي تستهدف مواءمة أطماع المصارف بالتخلّص من إلتزاماتها، مع أطماع السياسيين الراغبين بإجراء حفلة تحاصص جديدة.

وعلى أي حال، من المهم السؤال أخيرًا: على أساس أي تدقيق أو مشروع إعادة هيكلة مصرفيّة، قرّر التيار الوطني طرح هذا المشروع؟ كيف تم تحديد حجم الأصول العامّة المنوي استثمارها، أو نسبة العوائد التي ستسدد خسائر المصارف؟ قد تكون الإجابة الوحيدة هي أنّ المشروع لا يستهدف إجراء أي تدقيق أو إعادة هيكلة، بل هو البديل عن هذه الحلول المطلوبة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها