الخميس 2023/08/10

آخر تحديث: 10:30 (بيروت)

أمل بعد القوّات:إجماع على نهب الاصول العامة

الخميس 2023/08/10
أمل بعد القوّات:إجماع على نهب الاصول العامة
تبنّي هذه الفكرة، سيؤدّي إلى تأبيد الانهيار المالي الحاصل، من دون أي حل قريب(مصطفى جمال الدين)
increase حجم الخط decrease

تلقّف نوّاب كتلة التنمية والتحرير مسودّة مشروع القانون التي تقدّم بها رئيس مجلس شورى الدولة القاضي فادي الياس، والرامية إلى ما يدّعي أنّه "حماية الودائع المصرفيّة المشروعة وإعادتها إلى أصحابها". وعلى جناح السرعة، عدّل نوّاب الكتلة بعض بنود المسودّة، وتقدّموا بها كمشروع قانون في المجلس النيابي. المعالم الأساسيّة لمشروع القانون، لا تختلف كثيرًا عن مشروع القانون المقدّم سابقًا من قبل القوّات اللبنانيّة، ولا عن الطرح الذي دأبت على تسويقه جمعيّة المصارف منذ إعداد خطتها الأولى في بداية أيّار 2020. المطلوب باختصار: العودة إلى فكرة وضع اليد على الأصول العامّة، لتحميلها كلفة تسديد الخسائر المصرفيّة، وتكبيد الشعب اللبناني عبء سداد هذه الخسائر الضخمة من رسوم المرافق العامّة.

بعد أكثر من ثلاث سنوات و10 أشهر على الانهيار، بات من الواضح أنّ فكرة مجنونة كهذه ستطيح بالتفاهم مع صندوق النقد، الذي يدرك عبثيّة الخطوة. كما ستضرب المفاوضات مع حملة سندات اليوروبوند، الذين لن يوافقوا على إعادة جدولة ديون دولة تذهب باتجاه الانتحار المالي. وفكرة من هذا النوع، لن تُسدد الودائع ولو بعد عقود طويلة من الزمن، لكنّها ستخنق الدولة والمجتمع بعد تجريدهما من كل ما تبقى من إيرادات وأصول عامّة. ومع ذلك، مازالت المصارف ومعظم القوى السياسيّة تتبنّى هذا الطرح لسبب وحيد: تحييد رساميل المصارف عن الشطب، وعن تحمّلها نصيبها من الخسائر، مقابل إلقاء إلتزامات القطاع للمودعين على كاهل الدولة، وتحويل الودائع إلى ديون عامّة، من دون أن تُسدد هذه الديون بالضرورة.

القانون الأكثر تطرّفًا لصالح المصارف
يمكن القول أنّ المشروع الذي تبنّته حركة أمل، من خلال كتلتها النيابيّة، يحل في المرتبة الأولى من ناحية انحيازه لمصالح وحسابات أصحاب المصارف. لا بل يمكن حتّى اعتبار هذا المشروع أكثر تطرّفًا لصالح المصرفيين، من الخطّة التي حضّرتها جمعيّة المصارف نفسها في أيّار 2020. ويبدو في جميع ثنايا المشروع، أنّ ثمّة خفّة تقنيّة شديدة، بل وربّما استهتار واستخفاف متعمّدين، بما يوحي أنّ من أعدّ القانون يدرك أنّه يدوّن هذيانًا لا يمكن قولبته في أي نص تشريعي متماسك.

يبدأ المشروع كالتالي: ستنشأ هيئتان يعيّنهما مجلس الوزراء، الأولى بهدف إدارة الأصول العامّة، والثانية بهدف مراقبة هذه الأملاك والإشراف على استثمارها. بأربعة أسطر فقط لا غير، يُنهي القانون تصوّره لإطار الحوكمة الجديد، الذي سيرعى استثمار كل ما تملكه الدولة من أصول ومرافق عامّة وأملاك وغيره، وفي بلد له تجاربه المرّة مع الصناديق والهيئات المستحدثة غب الطلب. سنضع الحوكمة والشفافيّة جانبًا، سنفترض أن حركة أمل ستأتي بقديسين لإدارة الهيئتين، ولنسأل عن غاية وضع كل أملاك الدولة ومرافقها بتصرّف هؤلاء الأشخاص.

ستقوم الهيئتان، بحسب مشروع القانون، بإجراء "مزايدة عموميّة عالميّة"، لتلزيم استثمار وإدارة هذه المرافق وفقًا لمبادئ الشراكة ما بين القطاعين العام والخاص، وفي هذه الحالة ستحتفظ الدولة بحق النقض لدى التصويت في الجمعيّات العموميّة للشراكات في هذه المشاريع.

ومجددًا، وببضعة أسطر فقط لا غير، ومن دون أي ضوابط أو تفاصيل، يقترح القانون إجراء أوسع عمليّة تلزيم لاستغلال جميع المرافق العامّة، وهو ما يفترض أن يشمل المرافئ والمطار والبريد وشركات الاتصالات الخليويّة والأرضيّة والكهرباء وغيرها...إلخ. لا بل يذهب المشروع أبعد من ذلك، ليقترح ضم الأملاك البحريّة والمشاعات، إلى حفلة التلزيم بالجملة.

في واقع الأمر، يمكن للبعض أن يحاجج بأن الشراكات مع القطاع الخاص قد تفضي إلى زيادة عوائد وإنتاجيّة المرافق العامّة، بعد تلزيم استثمارها لشركات خاصّة. لكنّ هذا السيناريو، يفترض وجود ضوابط وآليّات شفّافة في ما يخص عمليّات التلزيم، وخصوصًا إذا ما كنّا نتحدث عن بلد شهد أكبر صفقات الفساد عبر آليّات الشراكة مع القطاع الخاص تحديدًا، كما شهد اللبنانيّون جيّدًا في قطاعات الكهرباء والخليوي والبريد وغيرها. فهل يضمن هذا القانون الفضفاض الذي أعدته حركة أمل، وبهذه الأسطر المعدودة، تلك الآليّات التي غابت عن الصفقات العموميّة منذ التسعينات؟

مرّة أخرى، فلنضع مسألة النزاهة جانبًا، ولنفترض أن الدولة اللبنانيّة ستستعين بقدّيسين في حفلة تلزيم قطاعاتها ومرافقها العامّة، ولنفترض أن "المزايدة العموميّة العالميّة" التي تتحدّث عنها حركة أمل ستحقّق أفضل ما يمكن تحقيقه لمصلحة الدولة اللبنانيّة. ولنسأل: ما هدف كل هذه الحفلة؟ وماذا سنفعل بإيرادات كل هذه التلزيمات؟

الجواب بسيط: كل عوائد تلزيم المرافق العامّة هذه، ستذهب إلى مكان واحد، هو حساب في مصرف لبنان، بهدف استعمالها لتسديد إلتزامات المصارف للمودعين! بمعنى أوضح، سيتنفّس لبنان وشعبه ودولته، لإطفاء الخسائر المصرفيّة، ومعالجة الفجوة في ميزانيّات القطاع المصرفي، فقط لا غير.

الخفّة في التجنّي على المال العام
لا يمكن أن يجد المرء بسهولة العبارات التي تصف الخفّة في التجنّي على المال العام. فعلى أي أساس قانوني أو محاسبي سيسدد الشعب اللبناني، من الرسوم التي سيدفعها لاستعمال المرافق العامّة، إلتزامات المصارف للمودعين؟ وعلى أي أساس ستصدر الدولة اللبنانيّة سندات دين طويلة الأجل، مضمونة بعوائد هذه المرافق، للاستدانة وتسديد هذه الودائع؟ لا يقدّم مشروع القانون أي إجابة وافية.

فكما هو معلوم، لا تتجاوز مديونيّة الدولة لصالح مصرف لبنان بالعملات الأجنبيّة حدود الخمسة مليارات دولار، وهي كل ما يملكه المصرف من سندات يوروبوند في الوقت الراهن. ومديونيّة الدولة للمصارف التجاريّة بالعملات الأجنبيّة، لم تعد تتجاوز الثلاثة مليارات دولار، بعدما باعت المصارف الغالبيّة الساحقة من سندات اليوروبوند التي تملكها لصالح جهات أجنبيّة. أمّا سندات الدين بالليرة اللبنانيّة، فخسرت أساسًا 98.5% من قيمتها منذ بدء الانهيار، بفعل تراجع سعر الصرف، وهو ما يخرجها فعليًا من معادلة الخسائر. ما هو المطلوب من الدولة، طالما أن أزمة المصارف الفعليّة لا تتعلّق فعلاً بالدين الحكومي؟

هل يقصد مشروع القانون هنا أن تتحمّل الدولة اللبنانيّة بإيرادات مرافقها العامّة، ومن جيوب المقيمين، كلفة الخسائر الناتجة عن عمليّات المصارف مع مصرف لبنان؟ وبصورة أوضح، هل يقصد تحميل الشعب اللبناني كلفة الخسائر التي تراكمت في ميزانيّة المصرف المركزي، في مراحل الهندسات والعمليات الاستثنائيّة والفوائد والأرباح الجنونيّة؟

هل يقصد مثلًا، تحميل الشعب اللبناني كلفة العمليات الاحتياليّة، التي وصفها البنك الدولي حرفيًا بـ"البونزي سكيم"، والتي أفضت إلى تبديد سيولة المصارف الموجودة في مصرف لبنان؟ وما المنطق في الذهاب باتجاه تحميل اللبنانيين هذه الكلفة، قبل أن يرى اللبنانيون تدقيقًا واحدًا يبيّن مصادر الخسائر وأسبابها والمستفيدين منها؟

إِشكاليّة الفكرة الجهنميّة لا تنطلق من عدم عدالتها فقط، بل من عدم واقعيّتها أيضًا. فالدولة التي ستتحمّل كل هذه الخسائر، والتي توازي ثلاث أضعاف حجم الاقتصاد المحلّي، هي نفسها الدولة التي تحار حاليًا في كيفيّة تأمين رواتب موظفيها وكلفة تشغيل مرافقها الحيويّة. فهل هذه الدولة نفسها، هي من سيتمكّن من الاستغناء عن إيرادات جميع المرافق العامّة في المستقبل، بهدف تسديد خسائر قطاع خاص مفلس؟

وهل يعتقد من وضع مشروع القانون هذا أن الدولة قادرة بالفعل على الاستمرار بالعمل، في حال تم تنفيذ هذا المقترح العبثي؟ وفي هذه الحالة، هل هناك من يعتقد أن لبنان سيسير خطوة واحدة باتجاه مسار التعافي المالي؟ بل هل سيشهد المجتمع أو الاقتصاد في لبنان أي نهضة مقبلة، ولعقود مقبلة من الزمن؟ وهل يستطيع الشعب اللبناني أن يسدد ما يكفي من رسوم لمستثمري المرافق العامّة، للتعويض عن خسائر تتجاوز قيمتها الـ73 مرّة حجم إيرادات الدولة السنويّة؟

المشكلة الأكبر، هي أن الفكرة ستمهّد فعليًا للإطاحة بحقوق المودعين، بعد أن يتم تحويل هذه الودائع إلى إلتزامات يراهن المشروع على تسديدها من قبل الدولة اللبنانيّة. فقيمة كل أصول الدولة مجتمعة، لا تساوي اليوم بحسب الدراسات أكثر من ربع حجم الخسائر المتراكمة في ميزانيّات القطاع المصرفي. فكيف يراهن مشروع القانون على إطفاء هذه الخسائر، من عوائد استثمار هذه الأصول، ومن دون بيعها كما يدّعي واضعو المشروع؟ 

في خلاصة الأمر، الرهان على استثمار أصول الدولة لتسديد خسائر المصارف، لا يتجاوز حدود بيع المودعين السمك في البحر. فوضعيّة الدولة وإيراداتها لن يسمحا بتنفيذ الفكرة، وعائدات المرافق العامّة لن تُسدد جزءًا يسيرًا من الخسائر المتراكمة، ولو بعد عشرات السنين. أمّا النتيجة الكارثيّة، فستكون القضاء على ما تبقى من دور للقطاع العام، وضرب أي إمكانيّة لنهوض الاقتصاد اللبناني. وإفشال المفاوضات مع صندوق النقد والدائنين الأجانب، بعد تبنّي هذه الفكرة، سيؤدّي إلى تأبيد الانهيار المالي الحاصل، من دون أي حل قريب.

المستفيد الوحيد من هذا المشروع، هو من لا يريد فتح الدفاتر وكشف أسباب الخسائر ومصدرها، لتوزيعها بعدل على من تسبب بها. هو المصرفي الذي لا يريد خسارة ملكيّة مصرفه. وهو السياسي الذي لا يريد كشف ارتكابات المرحلة السابقة. وهو تقاطع المصالح ما بين المصرفي والسياسي. هو جبهة عريضة رأيناها عام 2020 في لجنة المال والموازنة، ونراها اليوم في تقاطع مشاريع جمعيّة المصارف وحركة أمل والقوّات اللبنانيّة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها