الإثنين 2013/08/05

آخر تحديث: 04:13 (بيروت)

شعب التماسيح

الإثنين 2013/08/05
increase حجم الخط decrease
 تقع أحداث في لبنان بشكل شبه يومي يمكنها في بلد طبيعي أن تحدث ثورات وانتفاضات شعبية. من رجل ضرب زوجته حتى الموت وخرج من السجن، و أطفال ماتوا على أبواب المستشفيات، وعاملات تنتحر شنقاً في منازل مستخدميها، ومرضى سرطان تم بيعهم أدوية فاسدة، و اللائحة تطول. وفي كل مرة نسمع ونقرأ بالإستغراب: هذه قضية رأي عام، لماذا لا يتحرك أحد؟ كأن اللبنانيين اصبحوا كالتماسيح، لا تخرق جلدهم الغليظ أوجاع ومعاناة الآخرين. بل على العكس، هم (ووسائل اعلامهم) يتحمسون لخبر تمساح من جنسهم "نبت" في نهر بيروت، أكثر من أخبار القمع والإستبداد والمظالم الإجتماعية! لماذا أصبح معظم اللبنانيين كالتماسيح؟ كيف فقد هذا الشعب انسانيته؟ جزء كبير من الأجوبة على هذه التساؤلات يكمن في طبيعة التكوين الإقتصادي والإجتماعي لما يسمى بالكيان اللبناني. 
فمنذ إعلان لبنان الكبير سنة ١٩٢٠ لم يتم تكريس عصبية وطنية جامعة لسكان الجمهورية اللبنانية. نظام القبائل والطوائف وزعمائها صمد وحارب كل أشكال التحضر والإدماج على مدى عشرات السنين، إذ نجد أن مجمل دعائم العصبية الوطنية (التي من شأنها إن وجدت أن تجيش الرأي العام على قضايا تمس جميع المواطنين) قد جرى تدميرها بشكل ممنهج. التعليم الرسمي، الذي يمكنه ترسيخ هوية وطنية وقيم موحدة، جرى تحجيمه عبر الفساد والمحسوبيات، على حساب المدارس والجامعات الخاصة التي عمقت الهوة الثقافية والإجتماعية و الوطنية بين اللبنانيين. العديد من الطلاب لم يعودوا يتكلمون العربية، و انتماؤهم الثقافي وحتى الوطني هو حتماً لم يعد لبنانياً. أما الخدمات العامة، كالمياه والكهرباء والنقل العام و الأمن، فقد جرى تفتيتها ليصبح لكل منطقة شبه تأمين ذاتي لهذه الخدمات، مما ساهم بإفقاد اللبناني لجزء من وطنيته. إذ لم يعد يعتمد على الدولة اللبنانية لتأمين احتياجاته، بل على رضا الزعيم و مالك المولد الكهربائي أو "قبضاي" الحي. التمثيل السياسي ساهم إيضاً في إبعاد اللبنانيين عن بعضهم البعض، عبر قوانين إنتخاب رسخت المناطقية والطائفية على حساب التمثيل الوطني الشامل، وأنتجت إحباطاً عند معظم الناس وعدم ثقة بالعمل السياسي. فكيف يمكن لمواطن في بيروت أن يحاسب نائباً على عكار، إن هو لم ينتخبه ولا يدخل أصلاً في حسابات هذا النائب السياسية؟ وأخيراً يبرز دور القطاع الفني والثقافي، الذي شهد أيضاً تدميراً لكل ما من شأنه تعزيز مشهد ثقافي متنوع ومنفتح، على حساب إنتاج ثقافي خاضع لسلطة المال والطوائف. لدرجة أن نقاط التلاقي الثقافية، من موسيقى وسينما وكتب ومسرح، أصبحت شبه معدومة بين سكان المدن الرئيسية الميسورين وسكان الأطراف (من ضواحي مدن وارياف).
 إنهيار معمل ثياب في بنغلاديش حديثاً تسبب بحركة احتجاجات شعبية عارمة اثمرت تعديلاً لقوانين الصناعة والسلامة العامة. لماذا يتحرك الرأي العام في بنغلاديش لقضايا مثل هذه بينما يقف ساكناً في لبنان؟ بعض المغرضين قد يقول أن سكان بنغلاديش الفقراء هم أطيب وأشد نخوة من اللبنانيين، الذين يغرقون بترفهم وانانيتهم. ربما، لكن هناك نقاط إختلاف أعمق من هذه. مواطنو بنغلاديش الـ١٥٠ مليون ينتخبون نوابهم على مستوى كل البلاد، و الدستور هناك يضمن علمانية الدولة. يتوحد السكان هناك حول العديد من الأشياء، مثل الكريكت في الرياضة، بينما نجح اللبنانيون مؤخراً بإفشال كرة السلة، أحد آخر أوجه تعميق الإنتماء الوطني اللبناني (إن وجد!). حقيقة الأمر أن لبنان دولة إصطناعية لم ترتق بعد إلى مفهوم وطن، حيث لا يشعر معظم سكانها بالتعاضد في ما بينهم. ليس بالغريب إذن أن لا يتحرك احد هنا لقضايا أساسية، عندما لا يشعر أحد أنه ينتمي إلى المجتمع والكيان الذي يعيش فيه الآخر. الواقع أن حلبا التي قتلت فيها رولا يعقوب ليست في لبنان، بل في بلد آخر لا ننتمي إليه و نسمع عنه على التلفاز.
 
increase حجم الخط decrease