الثلاثاء 2014/04/15

آخر تحديث: 01:38 (بيروت)

نصير شما.. بلا أنا عُليا

الثلاثاء 2014/04/15
نصير شما.. بلا أنا عُليا
نصير شما في حفلة الجامعة الأميركية في بيروت (علي علوش)
increase حجم الخط decrease
 خطو بعيد من اللافتات. بهذا تختصر حفلة الفنان العراقي/العالمي نصير شما. لا وجود لـ"أنا عُليا" في أعماله الشبابية، السرمدية. أعمال تجدّد حضورها، بالعزف المتغيّر على آلة العود التي تجمعها بالفنان علاقة مبنية على الاقتصاد. عزف هو الأجمل، على هدى تجربة المعلم الأكبر منير بشير، وتأسيس "بيت العود العربي" في القاهرة أولاً، ثم في أبوظبي والإسكندرية وقسطنطينة الجزائرية، والخرطوم، والآن في غرناطة. وذلك معطوف على التأليف الموسيقي الخاص بالعود وكتابة المناهج الجديدة المخصصة له.

اهتمام بالمستقبل، لا بالنفس وحدها. انتقل الاهتمام الثاني إلى الأول، من دون فطاظة. في حفلته أمس في "أسمبلي هول" الجامعة الأميركية في بيروت، حضر نصير شما، بصورة من لم يغادر العاصمة اللبنانية. لم ييأس الرجل من حب المدينة الاستثنائية، لذا خصّها بكل الأغاني، المتوجهة إلى أكثر من عاصمة وعنوان. الأجمل، وهذه كلمة لا علاقة لها بقيم الإمتاع، كانت "إشراق"، وهي المؤلّف الموسيقي الأخير في الحفلة الحاشدة التي ظل عدد كبير من جمهورها خلف أبواب القاعة. وهنا، تجربة الموسيقي من واقعه الاجتماعي. لا غلو في الكلام، على أرباع صوت، وقصّ تخيلي في المقطوعات الموسيقية. "إشراق"، تطرب، من دون صوت، إلا صوت اليد على الآلة وعنق الآلة، لأن يد نصير شما تخصّص عنق الآلة بالكثير. كما لو أنها تفرش منهجها بالعزف عليها. عزف بيد واحدة، تلك سمة من سمات الحفلة، سمة خارجة من طبقات المجتمع العراقي الغارق في الحرب. 
 
"إشراق" أولاً. ثم، المقطوعات الأخرى، بلا كبير تفاوت. غير أن المقطوعة الأخيرة، ترجمت حالة شخصية لدى المؤلف/العازف. حالة تعميم الفرح، ما مسح التأليف الموسيقي بحيوية إيقاعية، خفّف نصير شما من حضورها بالقطع الأخرى، من دون فرز أو تحليل. حيث أن التأليف عند شما، يضيء نفسه بخطابه. هنا، تقود الحالة والروح المقطوعة إلى شخصيتها. لأن لدى المقطوعات شخصياتها، بعلاقة درامية، بمنجزات الآخرين، الحاضرة في حياة الناس كالهواء. استعمل شما في "إشراق" مقاطع من أغنية "قديش كان في ناس" للأخوين رحباني والسيدة فيروز، بالتركيز على روح الحوار بين آلتين. العود والبيانو. لحظة غير صامتة، بعيدة من الإرشادات المترسخة. خرج السحر من العلاقة بين الآلتين، ومن تواضع صاحب العود، لصالح مفاهيم التوزيع الموسيقية بين الآلآت. استعمل شما، في المقطوعة هذه، أغنية "طالعة من بيت أبوها". هذا أصل التأليف في كل المقطوعات المختارة للأمسية البيروتية. بالقطعة المهداة إلى سوريا، استعمال للموشح. المقطوعة الأولى "غد أجمل" كشفت افتتان المؤلف الموسيقي بالمؤلفات الأندلسية، موشحة بدور تمثيلي للموسيقى الأميركية اللاتينية. التانغو تحديداً.

حركة التلفظ الكامل باليد الواحدة، على عنق العود، تعود إلى ثمانينات القرن العشرين، وجدها شما بلحظة لقائه أحد أصدقائه، واحد من ضحايا الحرب العراقية الإيرانية. صديق بذراع واحدة، أراد الموسيقي أن يمحضه الأمل، إذ ألف "قصة حب شرقية"، شرط العزف بيد واحدة. هي يد حبيب، لن تلبث يد حبيبته أن تجيبه، على عزفه بعزف ذاتي بيد واحدة، تأخذ ذات الذكر من البطولة المقصوفة إلى النجومية. عزف شما بيد واحدة لكي يؤكد لصديقه أن يداً واحدة كافية في حياة. حالة شخصية. منهج كامل، يعبّر عنه بقوة العزف الاستثنائية، ذلك أن عزف شما لا يبدو عزفاً فردياً. إنه عزف بعدد غير محدود من الأيادي، من دون رغبة في محو عالم الآخر أو الآخرين. لأن الموسيقي يجد تجربته في امتدادها الواضح إلى التأليف بصالح التخت الشرقي. 
 
في حفلة الجامعة الأميركية، لم تكتمل أعداد التخت الشرقي، تألفت الفرقة من مزيج آلات شرقية وآلات غربية. رق وعود وغيتار باص وبيانو ودرامز، قادها الموسيقي بالإيماء لا بالاستعراض. نسق الكابريس الإيطالي واضح في مقطوعة "لو كان لي جناح"، في حين تميزت "بيروت رفة قلب" بالموسيقى التعبيرية وموسيقى الباروك، المحشودة بالتفاصيل. تفاصيل مسيلة بالرش على الأوتار وبالتنقيط  وبالالتزام. تلك واحدة من أبرز ميزات الأمسية، ذلك أن شما التزم بالتنويط. لم يرتجل على المكتوب، حين قسَّم وفرَّد. العنصران أساسيان في تأليفات التخت العربي أو الشرقي، معطوفان على الارتجال. خرجت أناقة العزف من الانضباط، باحترام أدوار الآلات الأخرى، الممهّدة دائماً، لحضور العود في وسطه، بحيث تطور حضوره باستمرار من تمهيد الآلات الأخرى لحضوره وسط المجموعة الآلاتية الأخرى.

حفلة شخصية. لا شك في ذلك. ما رفع مستوى الأداء الفني إلى أعلى مستوياته، بحوار الآلات غير المخنوق، بصالح آلة العود. لا صراع، إنه الانتماء، يخفف من الغلواء. هكذا، لعبت المجموعة "حوار المتنبي مع السياب" بما كساها بأهمية بالغة، من انتمائها إلى روح الإنجاز العربي في موسيقى الأندلس، وبالإعلان غير المباشر عن التعلق بحركات الطليعة بالثقافة العربية. الحوار بين المتنبي والسياب، حوار غير ملتبس، في أقانيم التجديد. إذ أن السياب كتب قصيدة العرب الجديدة، بالخروج على النظم، مع صلاح عبد الصبور ونازك الملائكة وكل من مارس الكتابة والكلام على قواعد الحق بالاختلاف. "نوستالجيا إلى قرطبة"، حنين إلى المنجز العربي. تحية إلى زرياب، حامل الإيتيكيت الثابتة بالمظهر والمأكل إلى المسحيين واليهود بالأندلس. لا يستطيع أحد إخفاء ذلك، كما لا يستطيع أحد، إلا تبيان عالم الفلامنكو في الحوار بين الشاعر والشاعر. 
 
نهاية الحفلة نهاية خيال مفتوح على الراهن والتاريخ. وصل نصير شما إلى أفكاره المدققة، من خلال زمن مستمر غير مجزأ، بحياة لا متقطعة، تعطي الإحساس بمرور الزمن وانسياب الأيام بالإحساس. 
 
increase حجم الخط decrease