الخميس 2014/08/07

آخر تحديث: 13:10 (بيروت)

تمارين على الكراهية

الخميس 2014/08/07
increase حجم الخط decrease

بعد أشهر قليلة من انطلاق الثورة السورية في 15 آذار/مار 2011، قرّر النظام أن تكون الإغاثة من التهم الأخطر التي تودي بـ"مرتكبها" إلى المجهول. مستعيضاً بها عن تهمة الخيانة العظمى والتعامل مع العدو الإسرائيلي والتجسّس. وبات العمل بالإغاثة، فعلاً يتطلب الشجاعة والتضحية وتحمّل العواقب القاسية. لم تكن تلك التهمة عبثية أو عشوائية. إنها تدريب الكائن السوري على الكراهية. بل على احتقار الآخر وإهانته. وأيضاً، تحمل في طيّاتها رغبة بتنميط الآخر حسب انتمائه الجغرافي أو الطائفي. النظام الذي روّج لعقود من الزمن سياسته العلمانية "المنفتحة" على كل الأديان والحضارات والطوائف، عمل منذ الأشهر الأولى على تفكيك تلك القشرة المخادعة التي تدّعي احتضان الآخر. وبات الاحتقار الذي تضمره شريحة المقرّبين من النظام والمستفيدين ورجال الأعمال والأثرياء الجدد لباقي شرائح الشعب، علنياً وصارخاً من دون خجل أو تردّد. وبما أن الثورة انطلقت من المناطق المهمّشة، كان احتقارها أسهل بالنسبة إلى تلك الشرائح.

عندما نتحدث عن موقف بعض الشخصيات الفلسطينية تجاه الثورة السورية، وعن صمتها المخزي أمام جرائم ترتكب بحق شعب تضامن معهم لسنوات ودفع ثمن تضامنه فقراً وجوعاً وقمعاً وقهراً، يتبادر إلى الذهن سؤال أساسي: ماذا قدّم السوريون إلى السوريين؟ سؤال عام، صحيح. وليس القصد منه، ماذا قدّم كل السوريين إلى كل السوريين؟ لكن ماذا قدّم الميسورون من السوريين إلى الآخر المنكوب والمهجّر والمحتاج؟ ثمة مساعدات كثيرة نسمع عنها، تبرّع بها رجال أعمال بداية الثورة إلا أنها مبالغ تافهة أمام هول ما يحدث في سوريا من جهة، وأمام ترف عيش الطرف الآخر من جهة أخرى.

لم يكن صعباً تقسيم السوريين بعد الثورة، إلى ما كانوا عليه قبلها في السرّ. يضاف إلى ذلك التصنيف الطبقي، الانتماء الجغرافي والطائفي. إبن دوما مدان حتى لو أثبت ولاءه و"براءته". ابن درعا كذلك وحمص وحماة وإدلب ودير الزور والرقة وحلب لاحقاً. اللاجئ السوري مدان أيضاً! مع أن مخيّمات اللجوء تضمّ الموالي والمعارض معاً! إلا أن فكرة المنطقة الثائرة التي ينتمي إليها هذا اللاجئ والتي استهدفتها طائرات النظام و"براميله المتفجرة" وصواريخه، هي وحدها كفيلة بتحويل هذا الآخر إلى كائن مكروه ومنبوذ ومتروك. وإغاثته ليست سوى خيانة عظمى للنظام السوري الذي تقصّد قصفه وتهجيره في حربه ضد "الإرهاب"!

تحويل الإغاثة إلى تهمة، هي تدريب على الكراهية لتجريد الآخر من انتمائه إلى مكانه وأرضه. و"معاداة النظام تعني معاداة الوطن". يصبح المهجّر، كالمطرود من وطنه. والوطن يتحول إلى عدو كاره لـ"مواطنيه" عندما قرّروا أن ينتفضوا ويصبحوا مواطنين للمرة الأولى. لم يعد السوريون شعباً أو كياناً. باتوا "مع" و"ضد"، "المنكوب" و"المعافى". وبينما كانت تلك المواقف خيارات بالنسبة إلى البعض، كانت فرضاً على البعض الآخر.

اليوم، يعاني اللاجئون السوريون في عرسال ومنطقة البقاع في لبنان من مأزق حقيقي. يعيشون نزوحاً جديداً إلى المجهول. بعضهم، حرقت خيمه وبعضهم هرب خوفاً من الملاحقة، بعضهم خطف أو اعتقل.

مخيمات اللاجئين في منطقة البقاع، يساندها منذ بداية النزوح، سوريون مجهولون. معظمهم لا يمتلك ثروات هائلة، لكنه يمتلك إحساساً بالكلّ. وبعضهم يعيش فقراً وعوزاً، لكنه يساعد على قدر استطاعته. بينما نسمع عن حفلات الأعراس التي يقيمها رجال أعمال لأبنائهم في عواصم أوروبية، منفقين مبالغ طائلة، لو خصّصوا الفتات منها لدعم اللاجئين السوريين، أبناء شعبهم، لكان الوضع أفضل بكثير. يحق لرجل الأعمال الشهير، وفيق سعيد، على سبيل المثال إقامة عرس ابنته في صالة المرايا في قصر فيرساي. نعم، يحق له. فهي وحيدته، وليست جوزفين زوجة لويس السادس عشر، أفضل أو أجمل من ابنته البالغة من العمر 27 عاماً. يحق له أن ينفق ما يعادل 100 مليون دولار على عرس استغرق ساعات قليلة. عرس أقيم بعد أيام قليلة من مذبحة الحولة في حمص. يحق لعبد الحليم خدام أن يحجز جزيرة كابري الإيطالية لإقامة حفلة زفاف حفيده الذي يحمل إسمه وكنيته. يحق له إنفاق ملايين الدولارات لتزويج شاب صغير سيخلّد له إسمه. العرس أقيم قبل شهر تقريباً ولم يكن باستطاعته أن يحجز جزيرة أرواد مقابل طرطوس السورية مثلاً لإقامته. على عكس رجل الأعمال نبيل كزبري الذي أقام عرس إبنه في فندق وسط دمشق قبل أشهر أيضاً ولم يتح له المكان المتواضع مساحة كبيرة من البذخ. فاكتفى بحشو الطعام المقدّم للمدعويين بليرات ذهب. المدعوّون المقتدرون الذين لا ينقصهم المال، استغنوا عن الشوك والسكاكين وصاروا يأكلون بأيديهم ويمزقون قطع اللحم والعجين بأصابعهم لالتقاط مزيد من الليرات. العرس كان كمجرزة أو مذبحة تماشياً مع ما يشهده السوريون من مجازر ومذابح. يحق لرجل الأعمال جمال دانيال أن يتبرّع بأكبر مبلغ شهدته الجامعة الأميركية في بيروت، أكثر من ثلاثين مليون دولار لترميم مبنى، سيحمل إسمه لاحقاً. يحق له طالما أن اللاجئين السوريين يسكنون خيماً، لا أبنية تحمل أسماء "خالدة".

يحق لهم ولغيرهم إنفاق ثرواتهم على المتع الشخصية وعلى تبييض صورهم وأموالهم و"تخليد" أسمائهم. كما يحق للشعب السوري المنكوب ألا ينسى ثورته وأن يدافع عن خياراته. يحق له أن يعرف من كان معه ومن كان ضدّه، من كان سورياً، ومن كان مجرد رجل أعمال موالياً للإجرام وداعماً له. يحق له أن يكره أيضاً. 

increase حجم الخط decrease