الخميس 2015/03/26

آخر تحديث: 12:50 (بيروت)

ليس للعرسالي إلا الريح

الخميس 2015/03/26
ليس للعرسالي إلا الريح
إذا أردت أن تعرف ماذا في عرسال، عليك أن تعرف ماذا في واشنطن (علي علوش)
increase حجم الخط decrease
"على قَلَقٍ كأنّ الرّيحَ تَحْتِي"، شعور رافقني أثناء زيارتي الأخيرة إلى عرسال، بلدتي التي لم أزرها منذ أشهر. كان ملحّاً عليّ أن أرى والدتي هذه المرة. تساءلت على مدى شهر: هل أقوم بالزيارة؟ الوضع ليس بالخطير جداً، لكنَّ القلق والتوتر النفسي يجعلانك تستبعد زيارة المكان الذي يعتبر الأخطر في لبنان منذ مدة.

استعنت بزميلي في العمل لإصدار بطاقة صحافية تخفف عني أعباء استفسارات حواجز عسكرية متمركزة عند كل مفترق أو مدخل مدينة. هي تبدأ من منطقة ضهر البيدر ويزداد عددها من رياق حتى عرسال، ويتفاقم تشددها عند مدخل بعلبك حيث الازدحام. أمَّا مدخل عرسال فيبدو كمشهد حدود تفصلنا عن بلد مجاور.

منذ الأحداث، صارت عرسال أشبه بثكنة عسكرية في الوقائع، والأخبار، وعند العبور إليها والخروج منها. باتت الحواحز الأمنية حاجة مُلحِّة بسبب الوضع في سوريا وتواجد المسلحين في جرود عرسال. لكنَّ العبور على الحواجز ثمرته شعور بأن الحياة محتلة أو متوترة أو مكركبة من جهة أو جهات، بأن الحياة ليست على ما يرام في هذا المكان. الحواجز، وإن كانت تفرض الأمن وتخفف احتمال الجحيم الأرضي، لكنها في النهاية تدلُّ على أن الحياة ليست على ما يرام، هو شعور ربما نجده في الروايات الكافكاوية.

لم أبق كثيراً في بلدتي، أمضيت ساعات، وسارعتُ إلى الرحيل. كانت ساعات صاخبة بالحكايات والروايات والاستفسارات. كل شيء يبعث القلق، ربما من يعيش داخل عرسال يشعر بالطمأنينة أكثر ممن ينتمي إليها ويسكن بعيداً منها، إذ تصله الأخبار قبل الآخرين، والبلدة من دون شك أصبحت خبراً يومياً في وسائل الإعلام. حتى إذا خلت الأخيرة من "مشهد عرسالي"، أثار الأمر استغرابنا.

زرت عرسال وعدت أدراجي. هل أكتب عنها فأصف واقعها، أم أبقى على الحياد؟ سؤال لازمني ثلاثة أيام. الكتابة عن مسقط الرأس أشبه بورطة، خصوصاً حين تكون الكتابة الفعلية في الأساس فعل اعتراض واحتجاج على أي أمر، وليست مجرد عواطف وتبخير وتبجيل. هي في جوهرها فعل انشقاق يتناقض مع الهويات الضيقة.

كنت متردداً. عمَّا سأكتب؟ كيف أكتب عن بلدة أصبحت محور العالم وبحراً من القضايا والهواجس والتصريحات؟ في الداخل العرسالي، لا يغيب الواقع السوري عن حياة الناس، سواء وجود المسلحين في الجرود، أو النازحين في داخل البلدة وعند أطرافها، أو الطيران الأسدي الذي يقصف، أو "حزب الله" الرابض في كثير من مناطق البقاع، ويتوعَّد أمينه العام بمعركة الربيع.

صبَّت إفرازات الحرب السورية والتوترات اللبنانية في المستنقع العرسالي، وبات الأمر يحتاج إلى جهد جبار لإصلاح قيح الواقع. حين جلوسي مع بعض أصدقاء الطفولة، كان السؤال الدائم: شو رأيك، شو رح بيصير؟ وكان جوابي الساخر على طريقة حسني البورظان: إذا أردت أن تعرف ماذا يحدث في عرسال، عليك أن تعرف ماذا يحدث في واشنطن.

تدلّ إشارات كثيرة على جرعة زائدة من القلق. يكثر سؤال الناس عن كيفية وصول التموين إلى المسلحين في الجرود، في وقت تعرَّض أستاذ مدرسة للضرب من أحد الحواجز العسكرية لأن في سيارته بضع ربطات من الخبر، كان ينقلها إلى شقيقه الذي يملك مزرعة بعد الحاجز. حصلت مشاجرات وتلقى الأستاذ كثيراً من اللكمات، فيما سُجن شاب آخر، أربعة أشهر ودفع 15 مليون ليرة لبنانية ليخرج من السجن لأنه كان ينقل الخبر إلى المخيم في وادي حميد، كما قيل. إشارة أخرى دالَّة على الواقع الصعب، يختصرها سؤال يطرحه أحد الشبان العراسلة على مواطن سوري: الآن وقد استحصلت على أوراق قانونية من الأمن العام اللبناني، هل ستعود الى سوريا؟ فيجيب السوري متسائلاً، وهل تريدني أن أعود إلى القبر؟

يقول عرسالي آخر إنه ذهب إلى أرضه في منطقة خربة داوود، كان عليه أن يمرَّ على الحواجز اللبنانية أولاً، وأن يعيش خوفاً من أن يكون ضحية القصف المدفعي والصاروخي. ثم حين وصل إلى بستانه، فُرض عليه الحصول على تصريح من مسلحين أقاموا سواتر ترابية في المنطقة حيث فرضوا سيطرتهم.

لحظة وصولي إلى بيتي بعد عودتي من عرسال، قرأت أن شخصين يستقلان دراجة نارية قتلا سورياً في دكانه وفرَّا إلى جهة مجهولة. فلم يعد خافياً، كما أخبرني أحد أقربائي، أن أبناء بلدة الجريجير السورية القلمونية، نقلوا "تاراتهم" إلى شوارع عرسال...

ربما ليس للعرسالي، بل للبناني والسوري واليمني والليبي والتونسي، أو العربي، إلا الريح، على نحو قول محمود درويش: "ليس للكردي إلا الريح".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها