الثلاثاء 2015/06/30

آخر تحديث: 12:05 (بيروت)

"أينما ارتمى" لفرقة "الألف": تداول الصوت والمعنى

الثلاثاء 2015/06/30
"أينما ارتمى" لفرقة "الألف": تداول الصوت والمعنى
الموسيقى تشد أزر الصوت، وتجعله، في بعض الأحيان، أقوى مما يحمله
increase حجم الخط decrease
أكثر ما يستوقف الأذن في ألبوم "أينما ارتمى" لفرقة "الألف"(*) عن نوى للتسجيلات- أيلول 2015، هو فعل التداول بين الموسيقى والنص، والذي يكفله أداء تامر أبو غزالة من مقطوعة إلى غيرها. وهذا الفعل، المتأرجح بين التفاوض والنزاع، يوازي فعلاً آخر له، يتصل بالعلاقة بين الغناء والآلات المحيطة به، والتي ترتكز على الإعانة. فلا بد من الإنتباه إلى كون الموسيقى تشد أزر الصوت، وتجعله، في بعض الأحيان، أقوى مما يحمله، أي القصيدة، التي بدورها تحاول الإنفراد، والبروز على غلبةٍ. بالتالي، وباستمرار، ثمة تداول يؤديه الغناء مع النص، ساعياً إلى تقريبه أكثر فأكثر من المقطوعة، وإظهار ملاءمته لها. ذاك، بلا أن يخسر من نشاطه في هذا السبيل، أو يضحي برَكبه لأجله. هنا، لا تضحية في التأليف، وبهذا، يقع الألبوم، ومعه الفرقة، على معادلةٍ نافذة في العزف، ويسيرة في التلقف.

لا يأتي التداول على ميزان واحد، أو على نبرة ثابتة، بل يتوزع ويتفاوت بحسب النص المؤدّى. ففي "أينما ارتمى"، وهي المقطوعة-العنوان، أو المفتاح، يذهب الغناء إلى قصيدة "هولاكو"، التي كتبها سركون بولص، مصوِّتاً إياها بحركة تعلقها على اللحن، وتترك الآلات تتقاذفها، وفي الوقت عينه، تصنع أرضيةً غير جامدة لها. كما لو أن الموسيقى، وعلى إثر لازمتها، تصوّر هولاكو يتقدم نحو غزوة أو حرب، وفي الطريق إليها، يصف نفسه، ويرفع من شأن قسوته. والأخيرة، يشير إليها الضرب الفولاذي، الذي يأخذ القصيدة، لا إلى حتفها، بل إلى مكانٍ، يجهله المستمع، لأن شخصيتها تختفي، أو بالأحرى، تنقطع فجأةً. فصحيح، أن سيف هذه الشخصية لا يستريح في غمده، إلا أن الصوت الذي أداها يسكن في وقت بعينه: لحظة الدخول إلى ميدان الحرب، حيث يستحيل العزف مبارزة بين النِصال بعدما كان لعبة إيقاعية.

تشكل الموسيقى طريق هولاكو من مونولوغه إلى ميدانه، تتفاوض مع قصيدته، وتقايضها النفع، من ناحية، توفر لها التأدية على أساس مضمونها، ومن ناحية أخرى، تحصل على إيقاعها فيها. وطبعاً، الصوت هو المُتداول، الذي لما يغني "درس من كاما سوترا" لمحمود درويش، يطلعها كأنه يصعد في نص قنوع بما قُسم له من نبرة ومعنى.


إلا أن الأداء يحول هذه القصيدة إلى مجال متحرك، ويعينه في ذلك، التلحين، الذي يبتعد عن إيقاع الإنتظار، باعتباره لوعة اشتياق، إلى التحين، بوصفه علامة على فرصة شعورية، من الضروري الإستفادة منها، أو بالأحرى تأكيدها، في سبيل لقاء آخر. هناك، في هذا المطاف، وقع دراماتيكي للإنتظار، الذي تخرجه الآلات من حاله فتصيره منفذاً، والأمر نفسه بالنسبة إلى الصوت، الذي يغير الإنتظار من قضاء لا تدبير فيه، إلى قدرٍ من الضروري الدأب عليه.

لكن، التفاوض بين الموسيقى والنص لا يتوقف عند معنى حيّ فيقلبه، أو يؤلف أرضيته فحسب، بل إنه يتعداه إلى معنى ميت، لا نبض فيه، ولا خُلج. في "الجثة"، تسود الألحان عبر الغناء، سائلةً عن مصير الجسم اللحمي والعظمي الذي يحضر أمامها، فتعاينه، وتخبر قصته، وتقف على ما تغير من حولها بوجوده.

مرةً، الصوت يحاكي سلك الجَلد بيد المعذِبين. ومرةً اخرى، يحاكي عضواً من الأعضاء الجسدية، وهو سرعان ما يتحول إلى تلكؤ نُطقي، ثم إلى سؤال عن المجهول من السردية الجثثية: "هل كانت تطلب ماء؟ هل كانت تريد خبزاً يا ترى؟ هل كانت تلعنهم؟ أم هل تطالب بالمزيد؟". ولا تحيي الموسيقى هذه الجثة بسرد حالها فحسب، بل في استكمالها. ذلك، من خلال الآلات، التي تطرد أدوات التعذيب من المشهد، لتأخذ مكانها، فتفتح غرفة العسف على صوتٍ، لا يفاوض الجثة، بل يسحبها إلى مصير غير مصيرها، أي يسحبها من التركيز على معاناتها إلى التركيز على تحمّلها.

ومن الممكن البحث في فعل التداول داخل باقي مقطوعات الألبوم، حيث لا يجيء غناء "الإعتراف" على ضيم أو إكراه، كما لو أنه إعلان الجثة، التي تثبت قدرتها على تحمل وضعها، فلا تنكسر في نتيجته، خصوصاً أن الموسيقى توسع مجالها، وتشرعها على "الدنيا". على هذا المنوال، يدور الصوت في غنائه، فهو "أينما ارتمى" تسبقه مساعدة الآلات له، وتلحقه مقايضةٌ، على إثرها، تبدأ الأغنيات، أين؟ في الحد الفاصل بين جهتين، جهة القصيدة، وجهة الموسيقى، وبين فعلين، فعل التداول، وفعل الإعانة.

(*) تتكوّن فرقة "الألف" من خيّام اللامي (عود)، تامر أبو غزالة (غناء وبزق)، بشّار فرّان (جيتار باص)، موريس لوقا (كيبورد وإلكترونيات)، خالد ياسين (درامز وإيقاعات).
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها