الخميس 2022/09/29

آخر تحديث: 12:44 (بيروت)

الصداقة مع القارئ وتوديعه

الخميس 2022/09/29
الصداقة مع القارئ وتوديعه
increase حجم الخط decrease
ساعة المغادرة ليست كساعة الشيخوخة، بحيث انها، وبدلاً من أن تحث على طرح سؤال كبير من قبيل سؤال "ما الكتابة؟"، تحض على تناول أفضل ما في هذه الكتابة، وهو ما يمكن تحديده، في هذه الجهة، بكونه المفاجأة. فبديهي القول إنّ الكتابة تفضي الى لقاء مع قراء عديدين، لكلٍّ منهم شكل القراءة الخاصة به. هذا اللقاء قد يحمل أحياناً الى ما يشبه التفاجؤ بما يعلق هؤلاء حول ما اقدموا على قراءته. لا أبالغ في الاشارة الى كوني آخذ على محمل الاعتبار كل تفاعلهم، لكنني، وفي الوقت نفسه، قد اغالي إن قلت أن هناك تعليقات تمسني أكثر من سواها. خلاف ذلك، ثمة قراء لا يمكن أن أغض الذاكرة عما تقدموا به حيال ما قرأوه طوال اعوام في هذا الحيز الذي أكتب وأنشر فيه، وإن كنت اريد أن استخلص من عندياتهم تعليقاً بعينه، وهو تعليق يعجبني جداً، لا سيما أن بعض رفاق يتقاسمونه، اختار هذا: "أحب ما تكتب وهذا على الرغم من كوني، وفي الكثير من الاحيان، لا أفهمه".

اعتقد أن هذا التعليق يقول كل شيء. بداية، لأن الكتابة لا تهجس بما يسمى "إفهام القراء"، فأن يجد القارئ طريقه الفوري إلى فهم ما أكتبه، هذا بمثابة تفصيل ضئيل للغاية في عملية تفاعلي معه وتفاعله معي. بالإضافة الى ذلك، الفهم الفوري لكتابة قد يكون بمثابة سبيل الى أمر سيىء، وهو جر القارئ الى تبني فكرة غيره عن موضوع ما، أي فكرة الكاتب، كما لو انه، وعندها، لا يذهب الى صناعة فكرة خاصة به انما يتماثل مع الكاتب من ناحية فكرته.

الفهم الفوري لا يساوي التماثل طبعاً، إنما هو يبرزه كإحتمال، مشدداً عليه. هذا، على ما أظن، ما لا تريده أي كتابة، وما لا يريده أي كاتب، مثلما أنه، وقبل كل شيء، هو ضد ممارسة القراءة. فأن نقرأ، هذا لا يعني ان نتبنى، وبفعل فورية الفهم، ما نقرأه، ما صاغه سوانا وفقاً لظرفه وموقعه وموقفه وشخصه الخ. انما أن نبتعد عن هذا التبني، عن التماثل الذي ينطوي عليه، وذلك، من أجل تشييد علاقة مع المكتوب، قوامها التفاعل معه صحيح، لكن صميمها، الإنفعال بالاسلوب. 

من اجل مقاربة هذا كله، لا بد من تقديم صلتين بين الكاتب والقارئ. الاولى هي أن يقول الاول فكرة ما لكي يفهمها الثاني، ولكي يقتنع بها، ولكي يتبناها قبولاً او رفضاً. على هذا النحو، الكاتب، بحسب هذه الصلة، يعرف مسبقاً ما يريد من القارئ، يعني ان يكون مما يسمى، وبكل تعاسة، "جمهور قرائه"، الذي ينقل اليه فكرته، دافعاً اياه الى استهلاكها، فهماً وتماثلاً.

خلاف هذه الصلة، هناك أخرى، مفادها الآتي: الكاتب لا يعرف سلفاً ما يريد كتابته، يسير في العتمة، في مجهولها، داعياً القارئ أن يرافقه في ما قد يتصوره كناية عن متاهة. مرافقة القارئ للكاتب هنا لا تجعله من "جمهوره"، انما هي تستند الى ما هو قريب من التصادق بينهما، تصادق لا يمر بالإفهام والتبني وبينهما التماثل. انما يمر بكون الاثنين، الكاتب والقارئ، يخوضان "تجربة العتمة" معاً، وخلالها، يتحملان، وكأي اصدقاء، بعضهما البعض. في هذا السياق، علاقة القارئ مع المكتوب، وعندما تكون صلته مع الكاتب صلة تصادق، لا تؤدي الى استهلاكه له، لفكرته، لرأيه، لوجهة نظره، بل أنه يتفاعل مع هذا المكتوب بطريقة مختلفة. اذ انه يتلقى ما فيه، ليس من "محتوى"، انما ينفعل بما فيه من اسلوب. يمكن تعريف هذا الاسلوب بهذه الطريقة السهلة: كيفية صناعة سبيل من اجل خوض "تجربة العتمة"، اي صناعة سبيل تدبيرها. بالتأكيد، هذا الاسلوب يخص الكاتب، لكن، القارئ لا يمكن ان ينفعل به من دون أن يخصه هو أيضاً، لا سيما انه وصديقه الكاتب خاضا التجربة إياها معاً.

بشكل من الاشكال، اسلوب كل نص هو اسلوب كاتبه بالتوازي مع كونه اسلوب قارئه، الذي، وحين ينفعل به، فهذا لا يدفعه الى التماهي معه، خصوصاً أنه لا حاجة له الى ذلك، طالما أنه أيضا أسلوبه. انما هو ينتبه إلى أنه كان، وكالكاتب، في العتمة، وعلى اساس هذا الاسلوب، قد اجتازها. فتحبيذ اسلوب ما هو بمثابة تذكر لأثره التدبيري، من العتمة، لا إلى الضوء طبعاً، انما الى مكان ما بينهما، إلى الظل، الذي قال مرة الروائي الايراني صادق هدايت، اننا لا نكتب سوى من اجل التوجه إليه، من أجل التحدث معه.

وهكذا، انعقدت الكتابة هنا على بغية ان تكون صداقة مع القراء، مثلما انعقدت على أن تكون، وبالتوازي مع ذلك، كتابة مع اصدقاء أيضاً. ولا احسب ان مفعول هذه الصداقة هو غير كونها تحيل دوماً إلى سحر الكتابة، بما هي دوماً ماضية، وفي الوقت نفسه، مقبلة، بما هي دوما حاصلة، وفي الوقت نفسه، ستحصل في ما بعد. وفي الانتظار، لا يسعني سوى أن أشكر اصدقائي القراء هنا في "المدن"، التي استقبلت ما يشبه مَشغلي الكتابي منذ أعوام كثيرة، وها قد حان الآن وقت توديعها وتوديعه بكل الشكر وجزيله.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها