الجمعة 2024/04/05

آخر تحديث: 12:19 (بيروت)

غنِّ يا كوكب حتى لو كنت ميتاً

الجمعة 2024/04/05
غنِّ يا كوكب حتى لو كنت ميتاً
كوكب حمزة
increase حجم الخط decrease
غنِّ يا كوكب. أمسك عودك وأطربنا.
فعودك رنان على مر الزمن. كما كنت تفعل في لياليك الملاح وكأنك مغنٍّ قادم من ليالي ألف ليلة وليلة. 
غنِّ لنا ما تبقى من حياتنا، نحن أصدقاءك الذين رافقوك عشرات السنين، ترشدنا إلى سماء هذا الكون الغريب. 

غداً سنرسلك إلى باطن الأرض، إلى أمك عشتار التي تبحث عن حبيبها تموز، إلى كلكامش الذي سار في الأرض غرباً، بحثاً عن الخلود فلم يجده. ستحلّق من سطح برج بابل، ليست بعيدة من أرض مدينة القاسم التي صنعتك، لكي ترسل ألحانك إلى هذا الوجود. وسيسمعك زرياب الموصلي، وإسحق، وعثمان الموصلي، بأذن لا تخطئ أسرار العود.
 
غنِّ لنا أغنية بلاد الرافدين الأخيرة، أغنية الموت في كل وادٍ، وسهب، وجبل. في كل حارة ومدينة وشارع. أغنية من تشردوا، وجاعوا، وحلموا، وعشقوا من دون أمل، وبحثوا عن عشبة الخلود، وغامروا هرباً من البؤس والموت والنكران، ليجدوا الموت أمامهم، في بلاد بين سيفين. في بلاد توزّع الموت يميناً ويساراً وكأنها منجل أعمى يحتطب في الظلام. من محيطك الغاضب إلى خليجك النائم. أغانيك كانت، ذات سنة، وكل يوم وشهر وسنة، دواء للعشاق والمحبين في دمشق، وبغداد، وكوبنهاغن، وبيروت، وسانباولو، وبروكسل، وأزقة طهران، والرباط.

تناولت نصف طن من الحشيشة، وعشرات الليترات من الكحول، وساعات من التأمل العميق، وكيلو من مشروب الجن، وعدداً من الفيديوات التي تؤرخ أغانيك، وتشهر نهايتك ومكان دفنك، لكي أستطيع الكتابة عن موتك. أيها "التاريخ". قبل ثلاثين سنة. كنت أطلق العنان لأغنية على الهاتف في مخيم اليرموك الفلسطيني الدمشقي، لكي تسمعها حبيبتي التي هجرتني، وكانت الأغنية بصوت كوكب. أتعرف ما كان اسمها؟ الأغنية؟ تلك الأغنية التي تجرح القلب مثل مشرط طبيب أعمى؟ 

لكن قبل ذلك سنرقص معاً على صوت دف، وناي، وعود. هناك في العالم السفلي حيث نلتقي ببيتهوفن، ومنير بشير، وهايدن، وموتسارت، ومحمد عبد الوهاب، وفريد الأطرش، وعادل محمود، وحيدر حيدر، وممدوح عدوان وعلي الجندي أبي لهب وأحمد فؤاد نجم، وحسب الشيخ جعفر وسعدي يوسف وأسماء المنور، ومائدة نزهت، وسيتا هوكوبيان التي التقيناها ذات سنة في مطعم دمشقي وسط الباب الشرقي المطل على باب توما الأثري. كانت في الطريق إلى المهجر. سهرنا حينها حتى شق الفجر حجب الليل الدمشقي وكأنه يعدنا بنهاية الرحلة.
 
غنِّ يا كوكبنا ولا تصمت، فالموت خلود في نهاية الأمر لمن هم من أمثالك. ومن أمثالنا نحن الباحثين عن الحقيقة، واليوتوبيا الأرضية في سهوب شاسعة ومدن من الأنذال والقتلة. سنسمعك اليوم، وغداً بعد دفنك، وبعد غد حين تصبح خالداً في جزيرة الأرواح الكوكبية في مجرتنا الباهرة كأنها عناقيد من النغمات على عودك البهي. أجل سيظل عودك رناناً إلى الأبد. سأبوح لك بسر. أنت ميت الآن ولن تعرف الحبيبة الدمشقية. كان اسم الأغنية التي أطلقتها من مسجلي في مخيم اليرموك: يوم الماشوفك ما اريد عيونيـ للشاعر الفذ رياض النعماني. أضعها في مسجل عتيق غاص بالعشق والحنين يروي موت الجواهري، وعبد الوهاب البياتي، وهادي العلوي، ومظفر النواب، في موتهم النائي مثل نجم يومض حزناً في مجرة ثانية.
 
نعم لقد شهدت دفن محمد مهدي الجواهري في مقبرة السيدة زينب الدمشقية، وعبد الوهاب البياتي في سفوح قاسيون، وهادي العلوي في مقبرة السيدة زينب، ومظفر النواب مودَّعاً من محبيه في ساحة اتحاد الأدباء والكتّاب العراقيين البغدادية إلى مقبرة النجف. وكانت بغداد وقتها، والعراق أيضاً، تبكي ابنها البار الذي مات وعينه على الهور، والنهر، والجبل، والسجن الذي غنّى فيه صديقه سعدي الحديثي، سبّاح الفرات، أغنيته الخالدة: "يا عين موليتين يا عين مولية". أو "الآه وا ويللي ايه، حال العدم حاليه". وها أنا سأودعك في مقبرة كوبنهاغن، غريباً، وحيداً، من دون عودك الرنان يا كوكب. من دون بساتين البنفسج.

سترقد تحت أغصان السنديان، والجوز البري، وما لا أعرف من أشجار الفايكنغ. لكنني أعرف أن التربة ستكون باردة على مدار السنة لغريب يعزف العود، ويغني للبلاد الحارة: بلاد أسرحدون، ونرام سين، وآشور بانيبال، وأبي نؤاس، والمتنبي، وحسين مردان، وسيتا هاكوبيان، والياس خضر، ورياض أحمد، وأنستاس الكرملي، وزهور حسين، والملا عبود الكرخي.
 
سترقد مع أصدقائك القدامى تنتظر، الشاعر وليد جمعة ليهزأ من الجميع، بشراً وجماداً وقادة وبلداناً. والشاعر حميد العقابي، والمناضل أبو عادل، والممثلة التي غادرت باكرا بيتها. الأحياء سيرثون الأموات يا صديقي. وسننصت كل يوم إلى  نوح حمام بابلي سيهدل ذات غروب. يحيّي ألحانك التي أطربت محبيك، وأصدقاءك، على امتداد ربع قرن أو يزيد. على امتداد نصف قرن من المعركة. 

إطمئن، سنغني أغانيك كلما هاجت بنا الأشواق واستبد بنا الغرام، فهي عزاء لأرواحنا على مر الزمن. قنطرتنا بعيدة يا صديقي. وطيورنا الطائرة لن تحط في أرض السمن والعسل. 
غرباء أينما نحل. غرباء هذا العالم المتوج بالموت.
غنِّ يا كوكب، غنِّ لنا حتى لو كنت ميتاً.

(*) في وداع الموسيقي العراقي الراحل كوكب حمزة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها