الثلاثاء 2024/04/16

آخر تحديث: 14:03 (بيروت)

إسبر نصرالله أو مختصر تاريخ لبنان الحديث

الثلاثاء 2024/04/16
إسبر نصرالله أو مختصر تاريخ لبنان الحديث
أوتاوا - كندا
increase حجم الخط decrease
يحدث أن يتعرف المرء على أشخاص ملاح في الفايسبوك، حديثهم القصير يختصر الاجتماع اللبناني، هم نواة الحكاية. إسبر نصرالله، ابن كفرمشكي البقاعية، مواليد مرحلة الاستقلال، عاش لبنان بالطول والعرض، ببؤسه ومشقاته وعثراته وزمنه الجميل. كان على مقاعد الدراسة مع الصحافي سمير عطالله، عاش في وسط بيروت وأسواقها، التجارية والشعبية والبغائية، قرأ المجلات الأدبية من "حوار" توفيق صايغ إلى "أسبوع" ياسر هواري، تابع الصفحات الثقافية وتحديداً "ملحق النهار" في الستينيات والسبعينيات، التقي الكثير من الشخصيات الثقافية من ابراهيم سلامة إلى رفيق شرف وأقرباء رئيف خوري، تابع مسرحيات الرواد من يعقوب شدراوي إلى روجية عساف، وشاهد الأفلام في نوادي السينما وصالاتها، الأميركية والفرنسية وباولو بازوليني، ولم يغب عن الأمسيات الشعرية، سواء سعيد عقل أو نزار قباني.

تحصل الحرب، تنقلب الأمور رأساً على عقب على وقع دخول الجيش السوري إلى لبنان، في أيار 1976. إسبر يقود سيارته برفقة فتاتين من منطقة غاليري سمعان، عابراً الشياح باتجاه كورنيش المزرعة، وكان في طريقه إلى طبيب العيون. فجأة، سدد مسلحون مسدساتهم إلى صدغه في منطقة الشياح، انتابه الخوف، تخيل شبح الموت... افرجوا عن الفتاتين اللتين عادتا الى البيت، واقتيد إسبر إلى مكتب إحدى المنظمات الفلسطينية حيث عومل بتهذيب لبضع ساعات إلى أن وصل خبر إطلاق سراح المختطفين عند الجهات المسيحية، فأطلقوا سراحه، وهو لم يتحرّ عن هوية الخاطفين... بعد أيام، اتصل بأخته في أوتاوا وجلس ينتظر دعوتها إلى كندا حيث هاجر معظم أبناء كفرمشكي.

كانت فترة عصيبة، بدءاً من نيسان 1975، وُلد ابنه عمر في بداية ذلك العام، وكان طفلاً قليل النوم، خصوصاً عندما تنهال قذائف الهاون على المنطقة، فكان يحمله ويلجأ إلى الحمّام الذي تمنحه "التتخيتة" سقفاً إضافياً. في أيار 1976، انتقل مع زوجته الى الأشرفية، حيث أقام مع أهل زوجته اتقاء للقذائف العشوائية، إلى أن وصلته بطاقة السفر التي غادر بموجبها على متن آخِر طائرة أقلعت من مطار بيروت في 6 حزيران 1976. يوم وصول إسبر إلى أوتاوا، كان فرحة لأخواته وخاله وخالاته. رأى وجوهاً كثيرة شبه أليفة. خيل إليه أنه يحلم، مدينة نظيفة بلا رصاص وقنص. غمره شعور عاطفي بهيج لإنقاذ طفليه من أصوات الانفجارات التي لم تكنْ لتهدأ نهاراً وليلاً في أنحاء بيروت. كانت فرحته لا توصف خصوصاً أنه، منذ يفاعته في القرية، يسمع أن كندا هي الأرض الموعودة لأهل كفرمشكي تحديداً! في تشرين الثاني 1976، بعد أشهر قليلة على وصوله إلى أوتاوا، وقد عاين بياض الثلج الذي يغطي الشوارع والسطوح، لم يشعر بالبرد، كان لا يزال شاباً، حتى أنه لم يشترِ معطفاً شتوياً سميكاً! لم يشعر بكآبة الطقس. التقى في المطعم شاباً أشقر وسيماً له ملامح أوروبية، كنيته بشارة، سمع أنه من أصل عربي.

- أنا إسبر من كفرمشكي في البقاع - لبنان... من أين أنت؟ متى وصلت إلى هنا؟

قال الشاب:
- "وأنا أيضاً، أحد جدودي من كفرمشكي، أتى إلى كندا العام 1880، استقر فيها، وتزوج كندية وأنجب ذرية تغيرت ملامح أفرادها، حتى لم يعدْ أحد يعرف أنهم من الشرق".

غابت العيون السّود والبُنّية والملامح السمراء، وحلّت محلها العيون الزرق والملامح الشقراء. رجل آخر من عائلة صيقلي لا يعرف شيئاً من العربية، لا يذكر متى أتى أجداده، رجح أن تاريخهم في كندا يعود إلى العام 1890. علامات كثيرة تدلّ على أن هجرة أهل كفرمشكي بدأت في 1880، وكان المهاجر الأول من عائلة نصرالله. تتالتْ الهجرات الباكرة هذه لغاية نشوب الحرب العالمية الأولى. لم يشعرْ إسبر بالغربة، أهل كفرمشكي مستقرون في أوتاوا. في مشواره الأول إلى لبنان بعد الهجرة، العام 1994، لم يذهب إسبر لشمّ الهواء، ولم يكن دافعه الحنين والاشتياق، بل عملية حصر الإرث بعد وفاة والده.

خمسون عاماً تقريباً مرت، وما زال إسبر يحمد الله لأنه خلصه من العهر والكذب والنفاق، إلا أنّ الحنين إلى المناخ والطعام اللبناني الشهي وكأس العرق لا يعوضه الأمان والسلام، خصوصاً عندما تزرح المدينة تحت الغطاء الأبيض خمسة أشهر في السنة. والآن يبحث إسبر في الفايسبوك عن طلاب كانوا معه في المدرسة أثناء الهزة الأرضية العام 1956. هذه هي أحوال العيش اللبناني وهجراته.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها