الجمعة 2024/03/08

آخر تحديث: 11:50 (بيروت)

"نحرُ الغزال" لبسمة الخطيب... القصص كأجنَّة روائية

الجمعة 2024/03/08
"نحرُ الغزال" لبسمة الخطيب... القصص كأجنَّة روائية
"القصة القصيرة عذّبتني بالمحو والإعادة والتشذيب، وكافأتني بالمهارة والرهافة والحزم"
increase حجم الخط decrease
يومَ سألتُ القاصّة والروائية، بسمة الخطيب، لماذا تكتبين القصة القصيرة؟ أجابت: "يلفتني قول وليم فوكنر إنّ القصة القصيرة بمثابة "الفنّ الكتابي الأكثر تطلّباً بعد الشعر"، وإن الروائيين هم من فشلوا في كتابة القصّة القصيرة فتوجهوا للرواية. القصّة القصيرة كانت تحدّياً خضته منذ البداية، ورغم كلّ صعوباتها إلا أنها وافقت ظروفي الشخصية، إذ سمحت لي القصص التي نشرتها تباعاً في بداياتي أن أعثر على صوتي الخاصّ وأحفر بملعقة طعام طريقي نحو نفسي. لقد صقلتُ شخصيتي الأدبية. عذّبتني بالمحو والإعادة والتشذيب، وكافأتني بالمهارة والرهافة والحزم"... 
 
بدا قول بسمة هذا، مرآة لتجربتها في مجموعتها "نحرُ العزال"(منشورات المتوسط، وفيها (21) قصص متعدّدة ومتنوعة في مضامينها وسردها ورهافتها وحذفها... قصص مكتوبة بلغة مكثفة ودرامية، ترتبط جميعها أو أغلبها، بنهايات تبدو غرائبية إلى حد كبير أو تنطوي على بعد فجائعي كابوسي - كافكاوي وسحري - ماركيزي. فمرّة تتحول الشخصية إلى نبتة، ومرة يصبح الوحش إنساناً مطروداً من غابته، ومرة ترى الشخصية ما يحدث لها وأمامها وهي ميتة، وهكذا...

وبسمة في قلب الأحداث المؤلمة والعاصفة والكارثية والقيامية، من بؤس الحياة في المدينة بعد انهيار العملة الوطنية والغلاء الفاحش، إلى سرقة أشجار الأحراج وتحويلها إلى حطب للتدفئة بسبب فقدان الوقود، والتلوث من إحراق المزابل والمكبات، إلى تداعيات الجائحة الكورونية والصيد الجائر... تدافع بسمة عن الحيوان أمام فعل الإنسان في صيده والإخلال بتوازن الطبيعة، وتتطرق إلى عمليات التجميل والاستهلاك والتشبه بالنجمات والنجوم وحياتهم، من دون أن ننسى الأمراض وانفجار مرفأ بيروت والطغيان السياسي.

تكتب بسمة بشغف يدل على هويتها، وفي كتابتها أيضاً ما هو أبعد من قول فوكنر وتأويله لكتابة القصص، فبسمة التي تبحث في كتابتها عن معنى المعنى، وظلال الواقع، تشكّل قصصها مزيجاً من الشعر. تقول: "هل أخبرتَ الغيوم أنك تحبُّها؟ أعرف كم أحببتِ الأشجار. قبل أن تكبري كفايةً لترحلي، كنت تبوحين لها بما يزعجك ويؤرقك ويؤلمك. وكنت منذ الصغر تجلسين فوق أغصانها وتغنين"... و"انطلقت رصاصة. شعرتُ بها تتصدَّع في لحمي. ارتميتُ أرضاً فوق سائلٍ دافئ. صاح رجل: "قتلتُهُ! قتلتُ الضبع"... ولا ضير إن قلنا أيضاً إنها تكتب قصصاً تتضمّن أجنّة لروايات قصيرة، وأخرى فيها شيء من المسرحة، شيء من روايات اليافعين وقصص الأطفال... وليس سهلاً أن تكون النصوص على هذا النحو.

ثمّة الكثير من القصص في "نحرُ الغزال" يمكن التوقف عندها والتحري في أبعدها، من قصة "العمياء" إلى "المصح" و"المسخ"، وهي نسخة أخرى ومختلفة عن المسخ الذي اشتهر به كافكا، الذي يقول في افتتاحية الرواية: "استيقظ غريغور سامسا ذات صباح على أحلام مثيرة للقلق، إذ وجد نفسه قد تحول إلى حشرة هائلة فظيعة"... "كانت حجرته، حجرة نوم إنسان عادية، إلا أنها تبدو صغيرة للغاية". أما في قصة بسمة فنقرأ: "حين استيقظ الوحش ذات ظهيرة من أحلامه المزعجة، اكتشف أنه تحوّل إلى إنسان"... "تلفّت حوله وتأكد أن كل شيء على حاله".. "لم يعد وحشاَ على أربعة قوائم"، ولم تقنع الوحوش وصغارها بمناداته بالمسخ، سرعان ما انتشر الخبر في البراري، كصاعقة لا مفرّ منها. تجمّعت الوحوش لتشاهد ابن جلدتها الذي تحوّل إلى إنسان!/ إنسان!؟ بل مسخ. هكذا سمته الجراء والأشبال، التي لم تتعلم بعد عن الإنسان أو تعرف من هو. لم تكتف الوحوش وصغارها بمناداته بالمسخ، بل عاملته كمسخٍ بشري شرير، وحاكمتْه على كل جريمة وجناية حدثت في الجوار. كل فجر، بعد رحلة الصيد، حين يخلد ذاك البشري المستجدّ إلى النوم، يتمنّى أن يستيقظ من كابوسه، ويعودَ إلى حالته الأولى وحياته الهانئة. لكن أمنيته لم تتحقق، بل إن مأساته تفاقمت حين راح قلبه، ساعة بعد أخرى، يُراكِم مشاعر الكراهية لإخوته، والحقدَ على قطيعه، حتى أنه أشعل فتيل القتال الضاري بين قطيعه وقطيع آخر، طالما تشاركا الكلأ والمستنقع بسلام".

هي السخرية السوداء، التي ربما تكون رواية أو نوفيلا في المستقبل.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها