الإثنين 2024/03/04

آخر تحديث: 12:29 (بيروت)

اختفاء موسى وموته... الريغار أقسى من الحرب

الإثنين 2024/03/04
اختفاء موسى وموته... الريغار أقسى من الحرب
"لم يستطع الصراخ حين وقع في الحفرة، لم يعلّمه أحد البكاء".
increase حجم الخط decrease
قبل أكثر من شهر، ترك المواطن موسى بزي، مدينته بنت جبيل، للإقامة لدى شقيقه في حي ماضي في الضاحية الجنوبية لبيروت، نزح هرباً من الاعتداءات الاسرائيلية وآثار القصف ولعنة "قواعد الإشتباك". وفي 26 كانون الثاني الماضي، اختفى موسى، ابن الرابعة والستين عاماً وهو من ذوي الاحتياجات الخاصة، ويعاني صعوبة في النطق... موسى قبل أن يكون في الضاحية، كانت حياته ضمن بنت جبيل والبلدات المجاورة، يعيش وحيداً بعد رحيل والديه، يتجول سيراً على قدميه في المنطقة التي يعرفها فحسب، يشارك كثيراً في واجب العزاء. وفي الضاحية، مكان النزوح والتيه، خرج مع شقيقته من المنزل لحضور تأبين ابنة بلدته، سمر السيد، التي قضت في غارة اسرائيلية استهدفت سيارة في طريق كفرا.

بحسب الروايات المتداولة عند مدخل القاعة، انفصل عن شقيقته للدخول إلى الركن المخصص لجلوس الرجال. وبعد انتهاء التأبين، لم تجده شقيقته ورُجح أنه غادر للعودة إلى المنزل، لكنه لم يعرف السبيل، حتى تاه في أروقة الحارات وأحياء الضاحية وربما المدينة، وأمس عثر على جثته داخل حفرة صحية في الطريق بين الأوزاعي ومطمر الكوستا برافا... مَن يتأمل المشهد جيداً بكاملة عناصره، لا بدّ أن يذرف الدموع، لا بد أن يشعر بالحسرة... لا بد أن يقول إن السقوط في ريغار بلا غطاء في الجمهورية اللبنانية ليس قدراً، بل ضرب من القتل، وأن النزوح قتل آخر...

كتب الصحافي ناظم السيد في فايسبوكه "لم يترك موسى جنازة في بنت جبيل لم يشارك فيها. لم يترك عزاء إلا وكان أول المتقدمين إليه. يروى عنه في البلدة أنه كان يعرف بالموت قبل بلوغ صاحبه. هذه المرة عجز عن الحدس بموته الشخصي. كان موسى في حفرة وقع فيها على طريق الأوزاعي (كوستا برافا). مات في الحفرة وحيداً. ظل هناك في عتمة هذا القبر المفتوح أكثر من شهر. حفرة معتمة تطل فقط على السماء التي بدت، على ما أظن، عالية وبعيدة. لقد غادر موسى بنت جبيل قسراً بسبب الحرب. لكنه مات من عوارض الحرب وليس بها. مات كالسمك حين يغادر عالمه المائي. موسى كان من ذوي الحاجات الخاصة. لم يكن يستطيع التكلم. لهذا ربما لم يستطع الصراخ حين وقع في الحفرة. لم يعلّمه أحد البكاء. لم يقل له أحد ما الألم. وداعاً موسى يا أجملنا وأكثرنا غربة. عليك السلام"...

ماذا يمكن أن يقال عن موت موسى وموتنا جميعاً؟ ماذا يمكن أن يقال عن الوطن السائب الذي لا يتردّد وزير خارجيته في القول "إننا جاهزون للحرب"!! لا يختبئ الناس في الريغار إذا اشتعلت الحرب.. ذلك الريغار بلا غطاء لا يختلف عن واقع الحدود السائبة، والجمهورية السائبة، ويشبه المواقف السياسية الكبيرة والصغيرة. الريغار بلا غطاء مرآة للواقع اللبناني، مرآة بامتياز للواقع الاجتماعي والسياسي، إذ إن كثراً من محبي الوطن والأملاك العام والحياة، لا يتورعون عن نهب كل الريغارات وبيعها على الملأ بأبخس الأثمان، بالتالي يجعلون البلد حفرة للموت وأشياء أخرى. 

يصعب تخيّل كيف أمضى موسى أيامه الأخيرة في الحفرة وهو الذي لا يجيد الصراخ... لحظات قاسية.

موت موسى في الحفرة هو موتنا، جميعا...
 
المفارقة أن الحفرة لطالما وردت في أدبيات الروائيين، يروي الكاتب سليم نصيب أنه عندما وصل رفيق الحريري الي رئاسة الوزراء في لبنان للمرة الأولى مع بداية التسعينيات، قرر إزالة المباني المهدمة من وسط بيروت، من اجل "إعادة الإعمار"، وهكذا كان كل تاريخ المدينة القديمة على وشك الزوال.. "وفي أحد الأيام، كنت مع أحد المصورين الفرنسيين الكبار المشاركين في الرحلة، وسقط فجأة في إحدى بالوعات المفتوحة، إذ كانت كل أغطية البالوعات في منطقة وسط البلد قد سرقت، وظل في الداخل حوالى ثلاث ساعات لخلو المنطقة من المارة، إلى أن مرّ بائع مياه، واستطعنا إخراجه بحبل.. ومن هنا جاءت لي فكرة الكتاب، وهي أن أحد المارة في منطقة وسط البلد سقط في بالوعة مفتوحة ولم يستطع الخروج، وراح يتحرك في الداخل، وظل في الأسفل طيلة سنوات الحرب، المعارك دائرة في الأعلى، وهو في الأسفل، وهكذا كان الكتاب الثاني بعنوان: مجنون بيروت"...

في "بيريتوس: مدينة تحت الأرض" لربيع جابر، يقول الراوي: "إن سألتَني الآن عن أسوأ لحظة في حياتي كلها، أقول: تلك اللحظة في مقر مبنى "سيتي بلاس"... هذا المبنى الواقف كما الشبح في النقطة ذاتها منذ ظهوره أواخر الستينات، كان يخفي لي - هو مدمّر هكذا - عالماً آخر لم أكن أتخيّل يوماً أنّه موجود تحت عالمنا. أسوأ لحظة في حياتي كلها. إنها حتى أشدّ ظلمة من الساعة الأخيرة في حياة أبي. لن أتغلّب يوماً على رحيل أبي، كان تعلقي به مرضيّاً، وسيبقى هكذا".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها