الأحد 2024/03/03

آخر تحديث: 07:17 (بيروت)

ألمانيّة وألمانيّ يفكّكان السرديّة اللاهوتيّة عن إسرائيل

الأحد 2024/03/03
ألمانيّة وألمانيّ يفكّكان السرديّة اللاهوتيّة عن إسرائيل
لعلّ بيت القصيد في وثيقة بوك ونيبر هو نقدهما للاهوت الألمانيّ المتعاطف مع إسرائيل لكونه يتجاهل السرديّة الفلسطينيّة
increase حجم الخط decrease
يستهلّ يِنس نيبر وكاتيا دوروثيا بوك نصّهما «معرفة قليلة وادّعاءات كثيرة»، الذي يتناول النقاش الدائر على مسألة فلسطين في ألمانيا، بوضع اليد على واحدة من الظواهر الأكثر إشكاليّة: كُثر من الذين يتكلّمون لا يعرفون إلّا القليل، والذين يحاججون غالباً ما يقومون بذلك على كثير من الدوغمائيّة والأفكار المسبقة. التعاطي مع الموضوع الفلسطينيّ في الكنائس الألمانيّة كثيراً ما يتّصف بهذه العيوب، تكتب بوك، عالمة الأديان والاختصاصيّة في العلوم السياسيّة، ويكتب نيبر، اللاهوتيّ الذي كان إبّان العقد الأول من القرن الراهن رئيس دائرة علاقات الكنيسة الإنجيليّة الألمانيّة مع الشرق الأدنى. يؤكّد اللاهوتيّ وعالمة الأديان في وثيقتهما أنّ معظم صانعي الخطاب، ولا سيّما في أوساط ما يُعرف بالحوار المسيحيّ-اليهوديّ، لم يزوروا الأراضي الفلسطينيّة البتّة، وغزّة تحديداً، ولم يدخلوا المنطقة الواقعة وراء الجدار العازل، حتّى إنّ عدداً كبيراً منهم لا يملك أصدقاء بين الفلسطينيّين. وحين يلجأون إلى الأدبيّات المكتوبة عن الإسلام السياسيّ وحركة «حماس»، فهم غالباً ما يقتطعون من المادّة ما يتناسب وتصوّراتهم المسبقة، ويعتصمون بالسرديّات التبسيطيّة. 

إنّ مَن يصوّر ما يجري في فلسطين على أنّه حرب بين الإسلام واليهوديّة يخطئ الهدف، لا لأنّه يستخفّ بطاقة الأديان، كلّ الأديان، بما فيها الإسلام، على صنع السلام فحسب، بل لكونه يتجاهل أنّ ما يحدث بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين هو صراع على الأرض، لا على الدين: «ليس كلّ المسلمين يكرهون اليهود، ولا كلّ اليهود يكرهون المسلمين». ضمن هذه السرديّة عن الحرب الدينيّة، يُحشر المسيحيّون في زاويّة الأقلّيّة التي يضطهدها المسلمون. لكنّ الكاتبين يؤكّدان أنّ المسيحيّين الفلسطينيّين حين يُسألون، يقولون إنّ ليس لديهم مشكلة مع المسلمين من بني شعبهم. فلئن كان المسيحيّون في فلسطين أقلّيّة، إلّا أنّهم يتعاطون مع نحو ١،٩ مليون فلسطينيّ عبر مؤسّساتهم الصحّيّة ومدارسهم وجامعاتهم. والأهمّ من ذلك أنّهم ينتسبون إلى التاريخ ذاته والثقافة ذاتها، وهذان مطبوعان بذاكرة النكبة والتهجير والاحتلال الإسرائيليّ بفعل حرب العام ١٩٦٧. وكما أنّ الحياة اليوميّة تحت الاحتلال لا تميّز بين مسلم ومسيحيّ، كذلك فإنّ الذين طُردوا من بيوتهم إبّان النكبة كان بينهم مسلمون ومسيحيّون على حدّ سواء.

بعدئذ، يتطرّق المؤلّفان إلى مسألة العداء للساميّة التي نسبها بعضهم في ألمانيا إلى الاتّحادات العالميّة المسيحيّة والمؤسّسات المسكونيّة، ولا سيّما مجلس الكنائس العالميّ، بسبب «عدم تضامنها بشكلٍ كافٍ» مع دولة إسرائيل. وعندهما أنّ الألمان يتناسون أنّهم تحوّلوا إلى أقلّيّة لا في المحافل الحواريّة المسيحيّة فحسب، بل في الأمم المتّحدة أيضاً. هل سألوا ذاتهم لماذا؟ إنّ معظم الكنائس الممثّلة في هذه الاتّحادات تعتبر إسرائيل قوّةً استعماريّة، على الأقلّ في ما يختصّ بالضفة الغربيّة وقطاع غزّة. بأيّ حقّ يعتبر بعض اللاهوتيّين الألمان الذين يتعاطفون مع إسرائيل، إذاً، أنّ سرديّتهم يجب أن يكون لها السبق على حساب السرديّات الأخرى؟ أليس من الأجدى أن يلعبوا لعبة الحوار مع الآخرين، التي تقوم على المساواة، ساعين إلى التعلّم من خبراتهم ونظرتهم إلى الأمور؟ أمّا دعوة بعضهم المؤسّسات الألمانيّة إلى قطع أموالها عن المحافل المسكونيّة العالميّة، فيرى المؤلّفان أنّه لا يمكن تصنيفها إلّا في خانة الابتزاز.

لعلّ بيت القصيد في وثيقة بوك ونيبر هو نقدهما للاهوت الألمانيّ المتعاطف مع إسرائيل لكونه يتجاهل السرديّة الفلسطينيّة، أو حتّى يشوّهها. هو لاهوت مكتبيّ بامتياز يتّسم بعمارته الفكريّة المُحكمة، لكنّه لا يأخذ الواقع الفلسطينيّ في الحسبان: «يقرأ مسيحيّو الأرض المقدّسة في الكتاب المقدّس عن شعب إسرائيل الذي يعده الله بالخلاص نيابةً عن البشر أجمعين، داعياً إيّاه إلى احترام عدد من القواعد الأخلاقيّة. لكنّهم يختبرون، في الوقت ذاته، كيف تقف أمام بابهم دبّابة تنتسب إلى دولة تدعى إسرائيل، وكيف أنّ سياسة هذه الدولة تعمل على إرعابهم». في مقابل ذلك، اللاهوت الفلسطينيّ ذو الطابع السياقيّ يسعى إلى ربط رسالة الكتاب المقدّس بواقع البشر المقموعين في الأرض ذاتها التي دار عليها كثير من أحداث هذا الكتاب. وليس من حقّ أيّ أستاذ جامعيّ في ألمانيا، مهما علا كعبه، أن يعتبر مسبقاً أنّ مقاربته أرفع شأناً من أيّ مساهمة فكريّة ولاهوتيّة مصدرها فلسطين. هذا ينسحب بالدرجة الأولى على العمارات اللاهوتيّة التي تنظّر لدولة إسرائيل متغاضيةً عن أنّ ملايين البشر من غير اليهود هناك يعيشون قسراً تحت سلطة احتلال تسلبهم وطنهم قطعةً بعد قطعة، وتنكر عليهم مقوّمات الحياة جميعها. والطامة الكبرى، فضلاً عن ذلك، هي عدم التمييز بين بني إسرائيل (اليهود) وأرض إسرائيل (فلسطين التاريخيّة) ودولة إسرائيل: «هل علينا نحن المسيحيّين أن نؤمن فعلاً بإله يسمح بأن يعيش بشر (بمن فيهم مسيحيّون) في حال من اللا-حرّيّة، وبأن يفقدوا أرضهم، وتُغتصب حقوقهم، ويموتوا زرافات»؟ إنّ المنطق «اللاهوتيّ» الذي يعترف لدولة إسرائيل بكرامة خاصّة وعلاقة خاصّة مع الله إنّما يؤدّي، في نهاية المطاف، إلى إعفاء يهود إسرائيل من ضرورة احترام المواثيق الدوليّة لكون دولتهم تصبح، وفقاً لهذا المنطق، مقولةً قائمةً في ذاتها لا تخضع لأيّ حكم أو تقييم بشريّ. 

يخلص المؤلّفان إلى أنّ أحداث السابع من أكتوبر أظهرت أنّ الاستمرار بما كانت عليه الحال بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين قبل هذا اليوم أمر لا يمكن تحمّله، ما يستتبع ضرورة استخلاص العبر ومراجعة الكنائس الألمانيّة، وخصوصاً الإنجيليّة، موقفها. أمّا في ما يختصّ بعالم الأكاديميا اللاهوتيّة والخطاب المجتمعيّ عموماً، فيحثّ الكاتبان على استعادة ثقافة الإصغاء وتحمّل الاختلاف وتبادل الحجج على نحو يتساوى فيه الجميع بلا أحكام مسبقة، إذ من غير المسموح به أن تتحوّل تهمة العداء للسامية، التي يجري توزيعها على البشر هنا وهناك، إلى مقتلة للأفكار المزعجة. ولعلّ استعادة هذه الثقافة هي أعظم خدمة يمكن أن يسديها المرء في سبيل محاربة معاداة الساميّة الحقيقيّة، والتي تعاظمت في ألمانيا في الآونة الأخيرة بشكل ملحوظ.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها