الأحد 2024/03/31

آخر تحديث: 07:34 (بيروت)

الفصح..العيد الكبير

الأحد 2024/03/31
الفصح..العيد الكبير
increase حجم الخط decrease

يا فاتح القدس خلِّ السيف ناحيةً
ليس الصليب حديداً كان بل خشبا
إذا نظرت إلى أين انتهت يده
وكيف جاوز في سلطانه القطبا
علمت أنّ وراء الضعف مقدرةً
وأنّ للحقّ لا للقوّة الغلبا (أحمد شوقي)
يأخذنا عيد الفصح إلى قلب الإيمان المسيحيّ. ليس من قبيل الصدفة أنّ بولس الرسول، في أحد أقدم نصوص العهد الجديد، يحدّد نواة الإيمان بابن مريم أنّ المسيح «مات ودُفن وقام وظهر» لعدد غير قليل من مريديه. وإنجيل مرقس، وهو بحسب شهادة العارفين أقدم الأناجيل على الإطلاق، ولعلّه مكتوب نحو العام 70 للميلاد، يبدو وكأنّه مجموعة متناثرة من الحكايات القصيرة عن المسيح تتمحور كلّها على الأيّام الأخيرة من حياته، التي شهدت عشاءه الأخير مع حفنة من صحبه والقبض عليه واقتياده إلى الصلب. لقد حفظت لنا المصادر الأولى، إذاً، أنّ الإيمان بالمسيح يسوع إن هو إلّا الإيمان بموته وقيامته بالدرجة الأولى. كلّ الأمور الأخرى، سيرة المسيح، تعاليمه، الإعجاز الإنسانيّ والأخلاقيّ في تعامله مع شؤون زمانه، كلّ هذا يأخذنا إلى موته وقيامته، لكونه بالموت الذي به وطئ الموت، كما ترنّم الكنيسة الشرقيّة، مهر تفاصيل حياته بخاتم لا يمحى. ولعلّ هذا ما حدا المسيحيّين في بلادنا على إطلاق تسمية «العيد الكبير» على عيد القيامة، بحيث تبدو سائر الأعياد الأخرى، مهما علا شأنها، مجرّد أعياد «صغرى».

الإيمان بقيامة المسيح هو الإيقان بأنّ الكلمة الأخيرة في حياة البشر ليست للموت، بل لاحتمالات المحبّة التي كانت قبل المسيح مجرّد همهمة، فاستحالت معه برنامج حياة. موت المسيح، بكلمات جورج خضر، كان التعبير الأرفع عن «الإسلام» لله: «يا أبتِ في يديك أستودع روحي». التصاق المسيح بالله والتسليم لمشيئته، الذي بلغ ذروته بالموت، انعكس إبّان حياته انفتاحاً غير مشروط على الآخرين في غيريّتهم، ولا سيّما على الخطأة والزناة وجباة الضرائب والمهمّشين والمستضعفين في الأرض من النساء والأطفال والمرضى. ولقد أفصح هذا الالتصاق عن ذاته على خشبة الصليب حين غفر يسوع لصالبيه، وهؤلاء كانوا ثلّةً من القادة الرومان، الذين يحتلّون فلسطين، وبعض أراكنة اليهود، الذين رأوا في الناصريّ تهديداً لهيمنتهم على مؤسّسة الهيكل وما يقترن بها من منافع اقتصاديّة وسلطان إيديولوجيّ. بلى بلى! كان لا بدّ من الموت كي تصل المحبّة إلى أرفع ذرى المحبّة. وكان لا بدّ من القيامة كي يقول الله عبر مسيحه البازغ من القبر مثل عروس من خدره الملوكيّ إنّ فعل محبّة واحد قادر على أن يبتلع كلّ أمواج الموت المتلاطمة حولنا. الفصح، بهذا المعنى، هو دعوة إلى الغفران، وإلى تغليب الانفتاح على التقوقع، وإلى انتصار التضامن الإنسانيّ على الدوران الأعمى في متاهة الذات بما تنطوي عليه من سرديّات متورّمة. 

إذا كان الفصح هو قوام الإيمان المسيحيّ ومعياره ومآله ومبتغاه، فإنّ كلّ المنظومات الفكريّة التي راكمتها المسيحيّة عبر العصور، على ما تتمتّع به من مشروعيّة في سياقاتها التاريخيّة، وعلى الرغم ممّا تتّسم به من بهاء واتّساق، خاضعة للنقد والمساءلة والمراجعة انطلاقاً من معياريّة الفصح. وإذا كان الأصل في المسيحيّة هو موت يسوع الناصريّ وقيامته، كما كتب رسوله بولس، فإنّ كلّ العمارات العقائديّة والقوانين التنظيميّة والمؤسّسات غير الربحيّة يجب أن تكون امتداداً لهذا الفصح. وهي إذا لم تكن كذلك، فقدت مشروعيّتها وصدقيّتها ومسوّغ وجودها. ينتج من هذا أنّ عيد الفصح، فضلاً عن كونه عيد تجديد المحبّة، هو أيضاً عيد وضع الأمور في نصابها، عيد استعادة معاني الأشياء في قوّتها الأصليّة وبعيداً من الزوائد والمجمِّلات والبهارج. فالمسيحيّة ليست مؤسّسات، ولا هي قوالب تاريخيّة جامدة وأهرامات فكريّة مقفلة، ولا هي بطبيعة الحال قوميّات وطوائفيّات وسرديّات عن الدين الذي وظيفته أن يسند الأمّة ويصون قيمها «الخالدة». المسيحيّة هي الإيمان بموت يسوع وقيامته وحسب. وهذا، لوحده، يختزن طاقة الحياة والتجدّد بأسرها. 

لقد آن الأوان أن ترجع المسيحيّة إلى الفصح إذا هي أرادت أن ترجع إلى ذاتها. وكلّ ما سوى ذلك، بحسب ما قال نجّار الناصرة ذات يوم، «يعطى لها ويزاد».
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها