الأحد 2024/04/21

آخر تحديث: 09:55 (بيروت)

هل شيعة لبنان ينتسبون إلى ثقافة أخرى؟

الأحد 2024/04/21
هل شيعة لبنان ينتسبون إلى ثقافة أخرى؟
اعلان لبنان الكبير
increase حجم الخط decrease
كان الأب جورج مسّوح، رحمه الله، يردّد أنّ الخطيئة الأصليّة للجماعات المنخرطة في الكيان اللبنانيّ هي ذهابها، هنا وثمّة، إلى اعتبار كلّ واحدة منها أنّ الأخرى، بسبب ما تتّسم به من اختلاف، إنّما تنتسب إلى ثقافة أخرى. خطاب الاختلاف الثقافيّ هذا يتوسّع إلى حدّ التورّم كلّما أمعنت جماعة من هذه الجماعات في التكوّم على ذاتها. فالانغلاق كثيراً ما يفضي إلى إضفاء صفة الإطلاق على الهويّة الذاتيّة، ويترافق مع نزعة إقصائيّة للآخر المختلف كائناً ما كان الاختلاف صغيراً. ويبدو أنّ ذروة هذه العمليّة الإقصائيّة هي الحسبان أنّ الآخر ينتسب إلى ثقافة أخرى، وأنّ العيش معه بات مستحيلاً. 

ربّما يكون أحد أبرز وجوه الافتراق الذي يحدو بعضهم على تبنّي نظريّة الاختلاف الثقافيّ هو أنّ الجماعات اللبنانيّة منقسمة على تأويل التاريخ. من الواضح أنّه ليس هناك في لبنان سرديّة تاريخيّة واحدة. لكن، من أين يأتي هذا الوهم أنّ البشر، كي يستطيعوا أن يعيشوا معاً، يجب أن يمتلكوا حكايةً تاريخيّةً واحدةً فيما نحن نعلم جيّداً أنّ حتّى أصحاب الأختصاص، أي المؤرّخين ذاتهم، لا يتّفقون على قراءة واحدة لغالبيّة أحداث التاريخ البشريّ؟ ربّما يكون هذا من رواسب نظريّة القوميّة العربيّة، والمعروف أنّها قامت على دعامتين: وحدة اللغة ووحدة التاريخ. حيال هذه المقاربة، كان هناك مفكّر بالغ الذكاء من بلادنا اسمه أنطون سعادة رأى أن ليس التاريخ هو ما يصنع الأمّة الواحدة، بل الجغرافيا. تطبع الجغرافيا الجماعات بطابعها المميّز، فتلتقي هذه على إرادة العيش معاً. ومن هذا التلاقي ينشأ تاريخ مشترك. ليس التاريخ، إذاً، هو ما يصنع الأمّة، بل الأمّة التي تعيش في بوتقة جغرافيّة واحدة هي التي تصنع التاريخ. 

طبعاً، مفهوم البقعة الجغرافيّة الواحدة في فكر سعادة ليس في منأًى عن النقد. والحقّ أنّ «الزعيم» حاول استنباط معايير استعان بها على رسم حدود الأمّة السوريّة. لكنّ هذه المعايير تبدو فضفاضة، وهي بطبيعة الحال خاضعة للنقاش. الثابت اليوم أنّ المتَّحدات لا تستند إلى الأفكار التي صاغها منظّرو القوميّات الكبرى، بل إلى ما يُعرف بالدول الوطنيّة في حدودها المعترف بها دوليّاً. لئن يكن الاستعمار هو مّن رسم هذه الحدود في غير مكان بعد انهيار الإمبراطوريّات الكبرى، إلّا أنّ هذا لا يلغي معيّة الحياة بين الأفراد والجماعات في إطار هذه المتّحدات. الذين ينتقدون اليوم فكرة دولة لبنان الكبير يتجاهلون أنّ مَن يسمّون ذاتهم لبنانيّين يتشاركون في معيّة حياة منذ نيّف ومئة عام على الأقلّ. هذه المعيّة لا تحتاج إلى تسويغ، فهي تسوّغ ذاتها بذاتها، كما أنّ العسل لا يحتاج إلى برهان على حلاوته لكونه برهان ذاته (بالإذن من سلوى النعيميّ، صاحبة الرواية الكبيرة «برهان العسل»). هذه المعيّة، التي شاءت الديناميّة التاريخيّة أن تمتدّ وتعمق في إطار المتَّحد الذي اسمه لبنان الكبير، هي ما يجعل اللبنانيّين جميعهم، على اختلاف أصولهم وأديانهم ومشاربهم، ينتمون إلى ثقافة واحدة قوامها تقاطع عظيم في العادات وأنماط السلوك والصورة عن الذات.

برهان العسل هو العسل. لا ضرورة، إذاً، للبرهان أنّ شيعة لبنان يشبهون اللبنانيّين الآخرين، بمن فيهم أصحاب نظريّة الاختلاف الثقافيّ: هم يأكلون الكبّة النيّة ذاتها، ويلبسون الملابس ذاتها. وهم كالآخرين يعشقون فيروز حين يتّكئ صوتها السندسيّ على وسادات أطفالهم، ويحبّون رنين حنجرة صباح، وينفعلون بمواويل وديع الصافي. يأكلون الصفيحة، ويرقصون الدبكة، ويشربون العرق مثل سواهم. وهم كاللبنانيّين جميعاً يعشقون الحرّيّة، وينتفضون إذا استبيحت الأرض: «أهلي ويغلون يغدو الموت لعبتهم/ إذا تطلّع صوب السفح عدوان» (سعيد عقل).


أين المشكلة إذاً؟ هي تكمن في أنّ الجماعات اللبنانيّة، عبر تاريخها الحديث، سقطت مراراً في واحدة من خطيئتين: الأولى هي التنكّر لهذا المتَّحد الذي اسمه لبنان الكبير، والذي يستمدّ تسويغه من معيّة الحياة فيه قبل أن يستمدّها من حدوده المعترف بها دوليّاً؛ والثانية هي التنكّر للجماعات الأخرى التي تعيش في هذا المتَّحد كلّما ولّد الاختلاف في السياسة انكفاءً وتقوقعاً وإعادة إنتاج لخرافة القدرة على العيش من دون الآخرين. 

إنّ حفنةً من شيعة لبنان اليوم واقعة في تجربة التنكّر لهذا المتَّحد. وهي توغل في ترّهات تقوم على إيديولوجيا دينيّة قمعيّة كأنّها مقدودة من زنازين القرون الوسطى، ونظريّات جيوسياسيّة تذكّر بزمن القوميّات البائدة من حيث ازدرائها الدول الوطنيّة، لكنّها تفتقر إلى عصاميّة مَن نظّروا لهذه القوميّات وذكائهم الحادّ. لا بدّ لهذه الحفنة من محبّي الحسين أن تتوب إلى ربّها وإلى الوطن الذي صنعته على قدر ما هو صنعها. أمّا جنوحها اليوم إلى الصراخ والخطاب الأجوف وتغليب منطق القوّة، فلا يلغي أنّها تنتمي إلى هذا الوطن، وأنّنا ننتسب وإيّاها إلى ثقافة واحدة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها