الإثنين 2024/03/18

آخر تحديث: 13:02 (بيروت)

قاضيان سوريان في محكمة العدل الدولية

الإثنين 2024/03/18
قاضيان سوريان في محكمة العدل الدولية
increase حجم الخط decrease
لفتت محكمة العدل الدولية، الأنظار، خلال الفترة الماضية، وذلك من خلال حدثين، الأول هو الحرب الإسرائيلية الهمجية ضد سكان قطاع غزة، وعمليات الإبادة التي ترتكبها فيه، والتي جعلت دولاً حول العالم في مقدمتها جنوب أفريقيا، تنبري للدفاع عن الضحايا، من خلال دعوى عاجلة قدمت إلى هذه الهيئة القانونية الدولية. والثاني انتُخاب القاضي اللبناني المخضرم نواف سلام، ليكون رئيسها السادس والعشرين، من قبل قضاتها لمدة ثلاث سنوات، خلفاً للقاضية الأميركية جوان دونوغو التي شغلت المنصب منذ شباط/ فبراير2021، ليشكل وصوله إلى هذا الموقع إشعاراً وتذكيراً بأن العقول القانونية اللبنانية والعربية حاضرة وبقوة في المحافل الدولية ذات الصلة. وثمة قضية ثالثة ربما ستشكل تفاصيلها المستقبلية حدثاً ثالثاً من دوافع الاهتمام بهذه المحكمة، ألا وهي الدعوى المرفوع من قبل هولندا وكندا ضد النظام السوري بسبب ارتكابه لجرائم التعذيب في السجون.

المؤسسة وبحسب توصيفها المنشور في موقعها في الإنترنت هي "الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة. وتتولى الفصل طبقا لأحكام القانون الدولي في النزاعات القانونية التي تنشأ بين الدول، وتقديم آراء استشارية بشأن المسائل القانونية التي قد تحيلها إليها أجهزة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة".

وقد يتبادر للذهن بعد قراءة هذا التعريف أن النشاط العدلي الذي يستطيع أن يفصل بين المتخاصمين، على كوكب الأرض، يستطيع أن يمد يده في كل زمان ومكان، ليوقف الحروب والأزمات والمآسي! لكن الحقيقة المرّة التي تعيدنا إلى الأرض، لنمشي على قدمين، بدلاً من أن نحلق في دوحة الأمنيات، تفيد بأن المحكمة، ورغم كونها مؤسسة دولية تتبع للأمم المتحدة، إلا أن تعقيدات وصول القضايا القانونية إليها، وكذلك الوقت الذي تستغرقه عملية البت بها، جعلها بعيدة من الصخب الإعلامي، ولم يجعل منها مادة مثيرة للصحافة العربية، بالإضافة إلى غياب المعلومات عن بنيتها وعدد قضاتها وآليات العمل فيها.

وقبل كل هذا وذاك، فإن عملها التقني غير المسيس بحد ذاته، يجعل الإجراءات اللاحقة، أي الخطوات التنفيذية التي تخرج مكتوبة ضمن أحكامها، في أيدي الدول صاحبة الشأن، وربما تبقى حبراً على ورق، كما تفعل إسرائيل إزاء "التدابير المؤقتة" التي طُلبت منها في سياق الدعوى المنظور فيها حالياً، وكما يفعل النظام السوري تجاه المطالب بالحفاظ على الأدلة، ووقف عمليات التعذيب في سجونه.

غير أن تتبع ما يجري في المحكمة ذاتها، بعد رؤية سياق عملها، يجعل المراقبين يتساءلون عن شخصيات القضاة، ومن أين يأتون، وهل يتمتعون بالكفاءة العلمية، ليكونوا أصحاب دور في هذا المحفل الدولي؟!

في كتابه "قاضيان سوريان في محكمة العدل الدولية"(*) الصادر حديثاً، يسعى الباحث أ.د. محمـد أميـن الميـدانـي، رئيس المركز العربي للتربية على القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، إلى بسط المعرفة أمام القارئ على مستويين أساسيين: تقديم المعلومات الأساسية للقارئ عن المحكمة وأساليب عملها، وأيضاً سرد التفاصيل حول مشاركة قاضيَين سوريَين في عملها، وعرض مساهماتهما في القضايا التي دعيا للعمل في تحكيمها.

فإذا كانت الفائدة المعرفية حول المحكمة ضرورية من أجل قارئ لا يمتلك المعلومات عنها، ومما تتكون؟ وكيف تعمل؟ فإن عرض تجربة القاضيين السوريين تبدو مهمة جداً بالنسبة للمتخصصين وللسوريين عموماً، لا سيما أن العادة قد جرت على إبراز حضور الرياضيين والفنانين والإعلاميين في المحافل الدولية، بينما يعمل أصحاب المهن الأخرى في الظل، ويكاد الجمهور لا يسمع بأسمائهم، وربما لا يعرف بوجودهم.

هذا الكتاب "قانوني بالدرجة الأولى ومع بعض المراجعات والمواقف التاريخية" بحسب توصيف مؤلفه له، يعرض تفاصيل عن المشاركة المهنية للقاضي الدكتور صلاح الدين ترزي بين العامين 1976 و1980، والقاضي الدكتور عبد الكريم الخاني بين العامين 1981 و1985، وذلك ضمن هدفه الأساسي وهو "إعداد كتاب أكاديمي قانوني يتعلق بإسهام هذين القاضيَين السوريَين في اجتهادات محكمة العدل الدولية".

فقد ساهم القاضي ترزي، وهو أول مواطن سوري يشغل منصب قاض هنا، في تحكيم قضيتين: قضية الجرف القاري لبحر أيجة (اليونان ضد تركيا)، وقضية الرهائن الأميركيين في السفارة الأميركية بطهران، وقد انقطعت مساهماته بسبب رحيله إثر حادث مفجع في مدينة لاهاي، حيث صدمه ترامواي في لحظة من لحظات شروده المتكرر.

أما القاضي الخاني، فقد ركز الباحث الميداني على ما هو مثبت من مشاركاته في السجلات، وقد ساهم في القضايا والآراء الاستشارية بخصوص طلب تعديل الحكم الرقم 273 الصادر عن المحكمة الإدارية لمنظمة الأمم المتحدة، والقضية المتعلقة بالجرف القاري (الجماهيرية العربية الليبية/مالطا) وقضية الأنشطة العسكرية وشبه العسكرية في نيكاراغوا وضدها.

ويذكر المؤلف أن التركيز على الشأن القانوني والمساهمة في محكمة العدل الدولية، إنما هو محاولة استنهاض، في سبيل أن يتفرغ أحد ما مستقبلاً "لإعداد كتب (تراجم) عن هذين القانونيَين، يسلط الضوء على مسيرتهما وحياتهما ودورهما في تاريخ سورية المعاصر".

في واقع الأمر، ورغم أن سياق الكتاب يحكي عن تجربة سابقة، إلا أنه يوقظ العقول إلى حقيقة غياب القضاة السوريين، في الفترات التي تلت حضور القاضيَين الراحلَين، ويجعل السؤال عن السبب وراء ذلك حاضراً، وهنا يجيب الباحث الميداني على سؤال "المدن" فيقول: "غياب الترشيحات لا يخص فقط هذه المحكمة، لكن أيضاً اللجان المعنية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة. وطوال السنوات الماضية لم أصادف في جنيف، إلا "خبيرة" سورية واحدة في لجنة حقوق الطفل، ولم تكن على المستوى المطلوب"!

وبحسب الباحث فإن الترشيح يتم عن طريق حكومة أي بلد لشغل المناصب في المحكمة أو في اللجان، وبعدها يتم الاختيار، لذلك دور الحكومة في أي بلد مهم وحاسم في هذا الموضوع.

لكن المشكلة لا تتعلق بالترشيح فحسب، بل ترتبط أيضاً بمسألة عميقة يعبر عنها بالقول إنه "لم تعُد في سورية كوادر قانونية مؤهلة بشكلٍ جيد وفي العديد من المجالات، ومن بقي هم كبار السن من أستاذتنا في السبعينات من القرن الماضي".

التركيز على المسائل التخصصية في عرض التجربتين اللتين عمل عليهما الباحث في كتابه هذا، لا يمنع القارئ، متخصصاً كان أو غير ذلك، من التفكير في ما آلت إليه الشخصية القانونية السورية، في ظل الأوضاع التي عاشتها ومازالت تعيشها البلاد المنكوبة. ورغم أن كل شيء بات مرتبطاً بالسياسة، إلا أن الحاجة إلى خبراء ومتخصصين في الشؤون القانونية الداخلية وكذلك في القانونية الدولية، يفرض وجود استراتيجية ترمم النقص. وإذا كانت المؤسسات المعنية غائبة عن هذا الشأن، فإن دوافع الأفراد، وعلى وجه الخصوص الأجيال الجديدة في الداخل والخارج، لا بد من أن تصحح هذا الميلان العجيب في ميزان العدالة السورية.

(*) "قاضيان سوريان في محكمة العدل الدولية". تأليف أ.د.محمد أمين الميداني. صادر عن شركة المؤسسة الحديثة للكتاب، طرابلس، لبنان، 2024.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها