الجمعة 2024/03/15

آخر تحديث: 12:04 (بيروت)

ذكرى اغتيال كمال جنبلاط... مَن غيرهم؟ مَن غيرهم؟

الجمعة 2024/03/15
ذكرى اغتيال كمال جنبلاط... مَن غيرهم؟ مَن غيرهم؟
خاض حافظ الأسد، بالأصالة والوكالة، والحديد والنار والفتن، حروباً طاحنة ومدمرة وفاتكة لإزاحة عرفات
increase حجم الخط decrease
في حديث لجريدة "الشرق الأوسط" اللندنية، روى ياسر عبد ربه، أمين السر السابق للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، إنه كان في عِداد وفد برئاسة الزعيم الفلسطيني، ياسر عرفات، زار دمشق لإطلاع الرئيس السوري، حافظ الأسد، على نتائج أعمال المجلس الوطني الفلسطيني التي عُقدت في القاهرة. يقول عبد ربه: "كان لا بدّ من أن نزور سوريا والأسد لنطلعه على النتائج كشيء بروتوكولي اعتدنا عليه مع قيادتي مصر وسوريا. حصل اغتيال الزعيم الدرزي كمال جنبلاط بالتزامن مع دورة المجلس الوطني، أي قبل أيام من زيارتنا لدمشق. عندما دخلنا على الأسد أخبره عرفات بأننا سمينا الدورة "دورة الشهيد كمال جنبلاط"، فسارع الأسد إلى القول: من برأيك يا "أبو عمار" اغتال كمال جنبلاط؟ (اغتيل في 16 مارس/ آذار 1977، ووُجّهت أصابع الاتهام باغتياله إلى دمشق)". وروى عبد ربه أن عرفات شعر بارتباك شديد ولم يجد مخرجاً غير اتهام إسرائيل. وألح الأسد على السؤال وكرره بصيغ عديدة خلال اللقاء.

عرفات على طريقته، عندما يكون غير قادر على إعطاء جواب وأمام وضع محرج للغاية، تروح رجلاه تتحركان ويكرر الكلمات. بعد قليل قال له: مَن غيرهم يا سيادة الرئيس؟ مَن غيرهم؟ مَن غيرهم؟ فقال له الأسد: مَن تعني يا "أبو عمار"؟ فأجاب: طبعاً إسرائيل. يقول عبد ربه: ارتحتُ قليلاً، لكن الأسد أكمل: لماذا تعتقد يا "أبو عمار" أنها إسرائيل وليس غيرها؟...

بدا الأسد من أسئلته ودورانه حول السؤال ذاته، كمَن يرتكب الجريمة ويعود إلى مسرحها ليكتشف الأجواء وردود الأفعال والأقوال، أو كمَن يقول لياسر عرفات يمكنني أن أفعل بك ما فعلته به، والحديث عن القتل في جوهره ربما تهديد بالقتل (والله أعلم)... وكان الأسد يسعى إلى الاستحواذ على القضية الفلسطينية والهيمنة على قرارها، مستغلاً التحولات الدولية والسياسة الخارجية الأميركية، ولم يكن على ود مع عرفات الساعي إلى القرار الفلسطيني المستقل.

وخاض الأسد، بالأصالة والوكالة، والحديد والنار والفتن، حروباً طاحنة ومدمرة وفاتكة لإزاحة عرفات من مناطق تواجده في لبنان، سواء بعد دخول قوات الردع العربية إلى لبنان 1976، أو في حرب طرابلس بالشراكة مع ما يسمى الأحزاب الوطنية (الشيوعي، القومي، البعث) والإسلامية، أو في حرب المخيمات برعاية أفواج حركة أمل... بالتوازي، غالباً ما كانت قصة علاقة الأسد بكمال جنبلاط، ومن بعدها نجلة وليد، فيها شيء من التوتر والتأويلات والتخمينات والصداقة والعداوة، وتُنسج سيناريوهات كثيرة حول ما قالوه له في اللقاءات وما قاله لهم... ومَن منهم على حق.

ومَردّ التوتر الأسدي-الجنبلاطي أنه بين العامين 1976 و1977 حاول جنبلاط تعديل أو إصلاح الصيغة السياسية اللبنانية من دون الانقلاب عليها أو تفكيكها، لكنه لجأ إلى خيار العنف والاستعانة بالسلاح الفلسطيني في وجه النظام اللبناني، هو القائل: "متى كان لديك مثل أعلى وكان هذا المثل يتعرض للتهديد، أي إذا كان عليك أن تختار بين الخضوع والعنف، فإنه ينبغي لك اختيار العنف". وكانت نقمة كمال جنبلاط على النظام السوري قد وصلت الى ذروتها ضد الأسد الذي منعه من استكمال سيطرة الحركة الوطنية والقوات المشتركة عسكرياً على كامل لبنان...

لا يُقدّم عبد ربه تأويلاً لأسئلة الأسد عن اغتيال جنبلاط، إلا بكون السؤال كان مفاجئاً. الأرجح أن الأسد كان يكرر مثل المشهديات السياسة التي تتضمن رسائل أو علامات شك وشُبهة، فالزعيم الدرزي وليد جنبلاط، ومن بعدما "تحرّر" من نير الوصاية السورية، من بعد 29 من سنة من التحالف مع نظام الأسد، روى زيارته الأولى للأسد قائلاً: "صعدت درجات القصر الرئاسي، الذي كان في تلك الفترة مبنى متواضعاً على كتف جبل قاسيون، وصولاً إلى الطابق الأول، حيث فتح أمامي الباب على صالون بسيط كان يقف في وسطه وريث شيخ الجبل، حافظ الأسد. في حين كنت أتقدم لأسلّم عليه، كان يرمقني بعينيه السوداوين المتقدتين، حيث لاحت لي ظلال ماض مرعب. وصاح مدهوشاً: "كم تشبه كمال جنبلاط"(1). وفي طريق العودة راح جنبلاط يحلل العبارة ويقرأ بين ثنايا حروفها، وزادت التأويلات بعد رحيل الأسد العام 2000 وانسحاب الجيش السوري من لبنان العام 2005، وثمة من اعتبرها تهديداً مبطناً.

ويتحدث جنبلاط بالسياسة قائلاً: "صافحت حافظ الأسد بعد مقتل والدي من أجل الجماعة ولست نادماً و"مش مستحي".. بالطبع يقصد أبناء طائفته، وهذا المسار برزت نتائجه أو ثماره (لاحقاً) في تمدّد حضور الجنبلاطية على حساب الأرسلانية (آل أرسلان) في الوسط الدرزي (كانت الأرسلانية تميل إلى بشير الجميل قبل تحولها الى الخط السوري الإيراني). وإذ كانت إحدى زيارات كمال جنبلاط للأسد عام 1976 مقدمة لمحاصرته واغتياله، تنقل الكاتبة برناديت شينك(2) أنه "حين زار كمال جنبلاط حافظ الأسد ذات مرة، قال له: لنتخلص من حكم الموارنة الذي بدأ منذ 140 عاماً". وما كان من الأسد إلا أن استعملها ضده في تبرير الدخول السوري إلى لبنان في العام 1976، قائلاً عن الحرب بين الحركة الوطنية والجبهة اللبنانية "إنها ليست حرب يمين أو يسار، بل حرب ثأر عمرها 140 عاماً" (يشكك الكتائبي السابق كريم بقرادوني فيهذه الرواية)... فزيارة وليد جنبلاط للأسد العام 1982 كانت مقدمة لـ"حرب الجبل". ينقل الصحافي أحمد عياش، أن جنبلاط طلب زيارة دمشق ولقاء حافظ الأسد.

ويقول أحد مرافقي جنبلاط الابن في رحلته إلى العاصمة السورية في عز الاجتياح العام 1982، أنّهم لم يصدقوا ما سمعوه من جنبلاط. كما لم يصدقوا أنّ الأسد الغارق في الهزيمة كان في وضع يسمح له أن يستقبل جنبلاط. لكن اللقاء تمّ، وقلائل هم الذين يعلمون حتى اليوم ما دار في ذلك اللقاء بعد خمسة أعوام على ارتكاب الأسد جريمة اغتيال كمال جنبلاط. فبعدما بادر وليد جنبلاط حافظ الأسد بالقول: "أتيت لأعقد معك تحالف الدم في وجه الاجتياح الإسرائيلي"، ردّ الأسد قائلاً: "لقد كان والدك على حق".

ولم تمر أشهر على تحالف الدم حتى كانت "حرب الجبل"، التي لا يفهم أحد كيف شارك بعض اليسار فيها، وهي شبه غائبة عن نقدهم الذاتي ونصوص ذاكراتهم التي يصدرونها... في المقابل، يقرأ جنبلاط حرب الجبل من منطلق "التهديد الوجودي". يقول: "بما أن 1977 كانت مجرد استراحة قصيرة قبل العاصفة الكبيرة لحرب الجبل وما استتبعها، كان من الضروري دفن الحزن والسيطرة على الغضب لتأمين الاستمرارية والبقاء على قيد الحياة، وخصوصاً مواجهة التحديات"(3). يقرأ جنبلاط "حرب الجبل"، التي شارك فيها يساريون وفلسطينيون وتقدميون اشتراكيون وسوريون، من منظور أنها "حرب وجودية"، بينما لا يتردّد بعض قادة الموارنة في تبرير الاستعانة بالشياطين في لحظة الحَشرة، من أجل حماية وجودهم.

بالتأكيد ما حصل، من تدخلات الأغيار في الحروب اللبنانية، كان جزءاً من نمطية سائدة منذ العام 1860 وما قبل، ولا شيء يبرر التدخلات سوى جموح الجماعات في الاستقواء بالخارج لأجل تحقيق غايات في الداخل... في المحصلة يسهل فهم هدف جنبلاط في تعاطيه مع اغتيال والده أو الحروب التي خاضها، لكن ما يصعب فهمه هو: لماذا كان اليسار اللبناني يخوض حروب غيره؟...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


(1) هذه في كلمة القاها في معهد العالم العربي في باريس ايار 2016..
(2) كمال جنبلاط -التراث العربي الإسلامي ودور الدروز في مفهومه لتاريخ لبنان" - دار النهار
(3) كلمة جنبلاط في معهد العالم العربي.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها