الأحد 2024/03/10

آخر تحديث: 15:31 (بيروت)

مارسيل بروست... العزلة والليل والسرير

الأحد 2024/03/10
مارسيل بروست... العزلة والليل والسرير
حينما سئل بروست لماذا تكتب؟ قال: لأتعذب.
increase حجم الخط decrease
 
حين يقرأ المرء طقوس أو عادات الروائي الفرنسي، مارسيل بروست في الكتابة، يلاحظ أن لديه عالمه الخاص والقائم بذاته، أحياناً نحسب فيه شيئاً من المغالاة والمبالغة الأدبية، وتكثر تأويلاته من باب التشويق ولفت الانتباه، فصاحب "البحث عن الزمن المفقود" و"هي أفضل إنجاز أدبي في عصرنا" بزعم أول فلاسفة الجماهير فالتر بنيامين، أصيب في العاشرة من عمره بمرض الربو لدى عودته من نزهة قام بها في غابة "بولونيا"، وشغف بسماع الموسيقى، ومن أبرز الموسيقيين الذين أعجب بهم موزارت، وكان ذا حساسيّة مفرطة، لذلك كان يحبّ أن يكتب بعد أن يكون قد سدّ كلّ المنافذ، مغطّيا جدران الغرفة بالورق الناعم حتى لا يتسرّب إليه أيّ شيء يمكن أن يخدش سمعه وسكينته، ويكدّر راحته، وكان يكتب بين النوم واليقظة، وتبدأ روايته السباعية بعبارة "كنت منذ زمن طويل معتادا على الذهاب الى فراشي مبكرا".

عدا ذلك كان بروست ينام في النهار، ولا يستطيع الكتابة إلا في السرير على ضوء الشموع، يكتب روبرت مكروم في "الغارديان": "أن تقول إنك تكتب على السرير أقرب إلى أن تقول إنك تعامل الكتابة بقدر ما من اللامبالاة، والكتابة في السرير لا تعنى بالضرورة الراحة أو الترف، أعتقد أن لها ميزة سيكولوجية أيضاً. فإن كتبت وأنت على السرير في الصباح الباكر (مثلما أفعل عادة) فأنت ترتاد جزءاً مثيراً من الوعي، منطقة ما بين الحلم واليقظة، جزء منك لا يزال في كهف الظلال الموجود بعالم الأحلام، وجزء آخر يحاول أن يتوافق مع الضوء الحاد للواقع. الخليط غالبا ما يصبح مثمرا وملهما". ويضيف "من المشهور أنّ مارسيل بروست كان يكتب دائماً في السرير، وغالباّ فالفقرات الملتوية المترددة في "في البحث عن الزمن المفقود" تحمل علامة هذا المكان الصامت المنعزل". (لم يكن بروست الوحيد الذي كان يكتب في السرير. فالقائمة تضم أيضًا الشاعر الإنكليزي وليام وردز وورث والروائي الأميركي مارك توين والرسامة المكسيكية فريدا كالو والروائي الأيرلندي جيمس جويس والقاصة الأميركية إديث وارتن والمفكر الصيني لين يوتانغ، والشاعر اللبناني عباس بيضون، والروائي جورج أورويل كان يضع الآلة الكاتبة على السرير ليدق المسودة الأخيرة لرواية 1984).

وعندما كانت تضيق العزلة ببروست أو "ملاك الليل" (عنوان كتاب لجمال شحيد عنه)، يخرج للسهر في بعض الأماكن المشبوهة التي يرتادها المهووسون بالجنس والمتع المحرّمة. وذات مرّة عاد برضوض في وجهه. وكان واضحاً أن أحداً سدّد له لكمات قويّة. فلمّا سألته الخادمة عن الأمر أجابها باسما: "يحدث هذا من وقت لآخر!" ويقال أنه أستأجر ذات مرة عدة غرف متلاصقة في أحد الفنادق لكي لا يتسرب اليه أصوات الجيران. ويقول جيرمين بيريه صاحب كتاب "التخلص من الزمن": "في كل صفحة من ملحمة بروست البحث عن الزمن المفقود كانت هناك أشباح غرفة النوم حيث نجد موضوع غرفة النوم كاللحن المعاود يعزف أمام أعيننا ثم يتلاشى فاسحاً للنغم الذي يليه". وعدا المكان والعزلة، ما كان لبروست أن يغوص في أعماق ذاكرته حتى المنابع لولا تلك الكعكة المغمسة بالشراب، فما إن لامست حلقه حتى تدفقت ذكريات الطفولة، وانتهى إلى كتابة رواية تعدّ من أفضل مئة رواية كتبت في التاريخ. فهو يتذكر مطبخ جدّته المحبوبة واصفاً في روايته بأن قطعة من بسكويت المادلين(*) الفرنسي مغموسة بكوب من شاي الزيزفون وحدها كفيلة "بجعل كامل جسدي ينتفض"، وتعود به إلى الذكريات والطفولة، محارباً الزمن والذاكرة، وهو يعتمد في كتاباته على الذاكرة الشريطية الاسترجاعية.

وتمتد الطقوس عند بروست إلى شكل الكتابة والحروف الصغيرة واستعمال الورق، في البدايات كان يستخدم أوراقاً منفصلة أثناء الكتابة وفي وقت لاحق لم يعد يستخدم سوى الدفاتر المدرسية يتكون كل منها من عدد من الصفحات يتراوح ما بين ستين ومئة صفحة، تحتوي كل منها على هامش أحمر اللون، وعادة ما كان يبدأ بالكتابة على الصفحات اليمنى، وأحياناً لم يكن يستخدم سوى النصف الأيمن من هذه الصفحات حتى يمكنه ـ في وقت لاحق ـ كتابة إضافات على النصف الذي تركه فارغاً، ترى هل يتبلور الشكل النهائي بعد عدة محاولات لتحرير النص؟ ومما يروى عن خادمته سيليست- أن بروست كان قد سقط في دوامة من اليأس والإحباط بسبب عدم قدرته على وضع تعديلات وتصويبات على نسخته الخطية من روايته؛ لأنه كان قد كتب في بعض أوراق دفاتره بدون ترك هوامش؛ فاقترحت عليه أن تلصق أوراقا أصغر على يمين أوراق مسودته ويسارها، وهكذا تتاح له فرصة كتابة تعليقاته إلى جانب نصه مباشرة. لقد كان هذا الحل مصدر سعادة كبيرة بالنسبة إلى الكاتب -كما تروي ذلك سيليست- لأنه أتاح له أن يرى، في نفس الحيز المكاني، نصه وتصويباته. كان هذا الحدث بمثابة نقطة تحول في علاقة بروست بـسيليست، التي لم يعد ينظر إليها بوصفها خادمة، بل اعتبرها مساعدته الأدبية.


وأكثر من ذلك، حينما سئل بروست لماذا تكتب؟ قال: لأتعذب.   
(*) المَادلين كعْكَة صغيرة على هَيْئة صَدَفَةٍ أو مَحَارة فيها نكهة الليمون أو زهرة البرتقال، هي على الأغلب الأعم اختصاص فرنسي يعود إلى القرن الثامن عشر...


(**) مقالة من ضمن سلسلة مقالات تعدها "المدن" عن الأدباء والشعراء والفلاسفة وطقوس الكتابة...
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها