الجمعة 2024/03/01

آخر تحديث: 13:25 (بيروت)

خمسون "لولو"... البطلة السويعاتية بين حربَين وزمنَين

الجمعة 2024/03/01
increase حجم الخط decrease
في أواخر شباط 1974، أي قبل 50 عاماً، قدّم الرحابنة مسرحية "لولو" في مسرح البيكاديلي في بيروت، ولاحقاً في مسرح معرض دمشق الدولي في العام نفسه، وهي من تأليف الرحابنة وتلحينهما، وإخراج برج فازليان. وأتت المسرحية بعد مدّة على أصابة عاصي بجلطة دماغية في 26 أيلول 1972، وبعد أقل من سنة على اغتيال الموساد الإسرائيلي لقيادات فلسطينية في منطقة فردان(بيروت) نيسان 1973، وهي الحادثة التي "كانت مقدمة لفصل من تاريخ الحروب اللبنانية"، وكذلك عُرضت المسرحية بعد أشهر قليلة على حرب تشرين 1973... يكتب مفيد مسوح: "كانت جماهير دمشق متعطّشة تستعجل الأيام التي تفصلها عن خريف 1974 والمهرجان الفني لمعرض دمشق الدولي ليشاهدوا المسرحية الرحبانية الجديدة التي سبقهم في مشاهدتها أشقاؤهم في لبنان وهي "لولو". وكان حضور المسرح الرحباني والفرقة الشعبية اللبنانية في دمشق يبعث في نفوس الجمهور رغبة للاطمئنان على صحة عاصي"(مفيد مسوح/ جماليات الابداع الرحباني).
كتبَ الأخوان عاصي ومنصور المسرحية، وكانت متنوعة الألحان، فبالإضافة إلى الأخوين وأعمالهما وموسيقاهما، شارك فيلمون وهبي بأغنية "من عز النوم بيسرقني" التي قدمتها فيروز، ولحن زياد الرحباني أغنية "نطرونا كثير ع مفرق دارينا"، ولحّن الياس الرحباني "كان عنا طاحون"، ومقدمة القسم الثاني والدبكة الشرقية والرقصة الشرقية، وهناك لحن روسي لليف كنيبر.

وإلى جانب فيروز التي تقود بدور "لولو السويعاتية" المزاجية، يمثل نصري شمس الدين، دور "البويَجي" جرجي، وجورجيت صايغ دور زوجته، ووليم حسواني القاضي وزوجته هدى، وبيار جامجيان في دور المجنون (نرى الراحل فيلمون وهبي وقد أخذ دور رعد المجنون في نسخة دمشق)، ونبيل أبو مراد الطبيب النفسي، وجوزف ناصيف خطيب "لولو" السابق "أبو درع"، وجوزف صقر "فارس بك"، الذي كانت له أدوار عديدة في مسرحيات أخرى مثل عسكري في "جبال الصوان" 1969 والنسناس في "ميس الريم" 1975 وهناك فريق من القبضايات يمثل أدوارهم أبو النور الذي عرفه الجمهور من خلال البرنامج التلفزيوني القديم "بيروت في الليل"، ثم احتجب خمس سنوات لأسباب صحية ليعود بشخصية القبضاي الجنتلمان، ومعه أبو الشباب بدور القبضاي أبو الشبك، وغازاروس التونيان بدور قبضاي أرمني، والممثل علي دياب في دور جد "لولو"... وآخرون من أفراد الفرقة الشعبية اللبنانية بين وتمثيل ورقص وغناء. وصمم ديكور المسرحية غازي قهوجي، والملابس جان بيار ديليفير. والخبر الذي ترافق مع المسرحية، بحسب رصد مجلة "الشبكة"، هو عودة عاصي ليتولى قيادة الفرقة الموسيقية بالإضافة الى منصور والياس... 


بعد المقدمة الموسيقية تفتح الستارة عن ساحة المكان أو المدينة، من طرفها الأيسر منزل يبدو من قِدَم قفله أنه لم يرَ مفتاحه من زمان.. إنه منزل لولو. في الجانب الأيمن مصطبة اعتاد أن يجلس عليها جرجي البويجي، ومنها يطل على دنيا الناس، ويتعرف إليهم من خلال أحذيتهم، وهو الذي يطل أولاً على المسرح ثم تتبعه لولو السويعاتية... لقد خرجت من السجن الذي أمضت فيه 15 سنة إلا شهراً. ولم تخرج بعفو بل لأنهم اكتشفوا أخير أنها بريئة. ويذيع البويَجي خبر خروجها من السجن بين أهل البلد الذين يهنئونها بالسلامة، ويعتذرون منها لأنهم يومها اضطروا أن يشهدوا ضدها. ثم يطلبون منها أن تنسى، فتغني هنا من لحن عاصي: إنسى؟ كيف؟ والخمسة عشر سنة، كنت بهالدني وما كنت بهالدني.

وبعد أن تنهي أغنيتها التي تُضمنها ما عانته داخل السجن، تصرخ في الجميع: انتو اتهمتوني بجريمة قتل، وانحبست خمسة عشر سنة وطلعت بالآخر بريئة، فإذن الي عندكن جريمة ودافعة حقها سلف... بدي أقتل واحد منكن. فتنقلب حياة البلد رأساً على عقب...



وقبل عرض المسرحية تولّت مجلة "الشبكة" تغطية الاستعدادات للحدث، فكتبت نوعاً من "الحرتقة" تظهر شيئاً من التباين، قائلة "هذه المرة تولّى الإجابة منصور الذي يؤثر السكوت على الكلام، وإذا تكلّم فمِن الجمل أذنه". وتضيف أنه أثناء الحديث "كان عاصي يطل ليشارك ويناقش في قضايا المسرح ومفهوم الأوبرا، والاوبريت، والمسارح الغنائي، والمسرح اليوناني، فالشكسبيري، فالشعبي، فالطليعي، ومسرح البولفار، والجيب... لينهي بأن المسرح الرحباني هو رحباني فقط، أي أنه لا ينطبق مئة في المئة على أي من هذه الألوان المسرحية. فإذا كان المسرح الطليعي وغيره يتصف بالعمق، مقتصراً على فئة صغيرة من الناس، فإن المسرح الرحباني يجمع الصفة الشعبية الى صفة العمق والشمول.

ويعرض منصور لفكرة المسرحية وحين يسأله الصحافي، جان شاهين "لكنها فكرة سبق أن وردت في بعض المسرحيات والأفلام العالمية؟"، يجيب: "فكرتها قرأها عاصي ضمن أربعة سطور فقط في نشرة إذاعية، وبعدها فتشنا مع عدد من المسرحيين عن هذه المسرحية فلم نجد لها أثراً. وقد عالجناها على طريقتنا الخاصة لتصبح مسرحية غنائية رحبانية بذاتها" (يذكر الشاعر بول شاوول أن المسرحية مقتبسة عن "عودة السيدة العجوز" لدورنمات)... يضيف منصور الرحباني بأن المسرحية "تطرح قضايا عديدة، منها قضية العدالة، وقضية الحرية، وقضية الحكم في الأرض.



وسرعان ما كتبت مجلة "الشبكة" في عددها الرقم 948 بتاريخ 25 آذار 1974، مقالاً بعنوان "الفلسفة في مسرحية لولو"، جاء فيه: "مسرحية لولو كانت معبأة بالكلمة وحتى الدفق.. والكلمة فيها لا تعني الجمال وحده في حسن التعبير، بل تعني أيضاً الفلسفة العميقة التي يعتبر منصور الرحباني سيداً من أسيادها"... يضيف المقال: "إن منصور - للمناسبة- هو عبقري الكلمة في بيت الرحابنة. انه هو المفكر والصائغ والمنفذ، وخاصة في هذا الظرف الذي استراح فيه عاصي، العبقري الثاني، بعد طول نحت.. لكن منصور يتواضع دائماً وينزوي حتى ويحتجب... ويكتفي بالقول: هذا من صنع الأخوين رحباني. أما الذين يعرفونه ويدركونه ويقدرونه، فيعلمون أنه لو كان مفكراً أجنبيا لذهبت كل أقواله مثلاً".

وعندما عُرضت المسرحية في معرض دمشق الدولي، بحضور الموسيقار محمد عبد الوهاب، كتب شفيق نعمة في مجلة "الشبكة" العدد 972 بتاريخ 9 أيلول 1974: تابع عبد الوهاب مسرحية لولو بكل حواسه، فأعجب بالكلمة الحلوة، وضحك للنكتة اللاذعة، وصفق للتمثيل، وطيب للألحان وللأداء والصوت الجميل، حتى دُعي لاستراجة قصيرة في صالة التشريفات... هناك هنأ فيروز وعانق الياس ومنصور، وأخذ عاصي بالأحضان، ثم تحدّث عن النصف الأول من مسرحية "لولو"، مبدياً إعجابه بالقصة والحوار والشعر والألحان، معترضاً على التقليل من الديالوغ... فأجابه عاصي بأن منصور هو صاحب "لولو" قصة وحواراً وشعراً ولحناً، لكن منصور رد له الاتهام بالإشارة إلى أنه كان مصاباً بنزلة برد أفقدته صوته". وهنأ عبد الوهاب الرحابنة على أغنية "راجعين يا هوى" وقال: "إنها فعلاً الأغنية كاملة العناصر".

آراء
وتعدّدت الآراء في مقاربة مسرحية "لولو" وتوقيتها ولحظتها وأبعادها. كتب الصحافي رفيق خوري في تعريف المسرحية: "لولو ليست مجرد لعبة مسرحية. وفيروز هذه المرة، ليست البنت المظلومة أو الملعونة أو الحالمة، إنها الضحية مفتوحة العينين. السويعاتية التي تخيف الذين يلطون خلف العقل لأنهم لا يعرفون أين ستضع قدمها الثانية".



ويقول الشاعر بول شاوول: "مسرحية لولو، التي قدمت في العام 1974، تكتسب أهمية مميزة لاعتبارات عديدة منها، أنها من أكثر الأعمال الرحبانية هجائية للمجتمع ولعلاقاته ولتناقضاته، وناسه. هذا الهجاء الأسود لا يطول إلى السلطة فقط، وإنما أيضاً الى العلاقات الاجتماعية والإنسانية التي شوّهتها القيم الاستهلاكية والتجارية ودمرتها المصالح وأشكال النفاق. كأن مسرحية لولو في مضمونها الهجائي، نقيض المناخات الرحبانية التي عرفناها في البدايات (في المكان السعيد)، مع "أيام الحصاد" و"جسر القمر" و"بياع الخواتم" و"دواليب الهوا" وحتى في مرحلة "فخر الدين" و"جبال الصوان" امتداداً الى "ميس الريم" و"بترا" و"الربيع السابع" شعرية العلاقات وطيبتها وبساطتها في المرحلة الأولى، حيث ينتصر الإنسان السعيد الذي خلبته البيئة والحلم والفردوس الطوباوي وملحمية الشخصيات البطولية في "فخر الدين" و"جبال الصوان" ومن ثم "بترا" وحتى "صيف 840" (علماً بأن هذه المسرحية التي وضعها منصور رحباني، تحمل الكثير من الهجائية السوداء في تضاعيفها)، كأن هذه المسرحية أي "لولو" تنبئ بما سيحصل في 1975، أي الحرب في لبنان" (بول شاوول- من مقالة طويلة بعنوان "رحيل التجربة الرحبانية والمسرح الغنائي الشامل").



ويكتب المسرحي نبيل أبو مراد "في لولو سجن وقضاء واهتمامات برجوازية مثل السهرات الراقصة وارتداء الازياء الحديثة وغير ذلك" (كتاب "المسرح اللبناني في القرن العشرين")، ويعتبر أبو مراد أن هذه المسرحية من ضمن المسرحيات الغنائية المستوحاة من مناخ المدينة ومشاكلها، منحت تلك الحقبة من الانتاج الرحباني صفة الأعمال ذات الأبعاد والمضامين السياسية والاجتماعية بما حملته من واقعية جديدة في النظر إلى القضايا الرئيسية للإنسان، ولم تعد القضايا محصورة في القرية وناسها. وتنتهي المسرحية بأن تغادر لولو الى قرية جدها، تاركة المدينة في حالة من الفوضى والنزاع (محمد الشيخ- فيروز وسوسيولوجيا الابداع عن الرحابنة)...

وكتب المؤرخ فواز طرابلسي: "لولو مسرحية عن الزمن. وبتعبير أدق هي مسرحية عن التفارق بين زمنين: زمن لولو الخارجة من السجن وزمن المجتمع. ومن خلال هذه التفارق تتحول البطلة إلى شاهد على ما أصاب المجتمع من تحوّل وحراك. نايف أبو درع، حبيبها السابق، تركته لولو شاباً ممتلئاً صحة وعافية ويأكل مثل الفحل ويبحث عن عمل. تلقاه سمسار أراضٍ، وقد تزوج واندلق كرشه. القبضايات ولى زمانهم وانهدمت قصص البطولة والفروسية والمروءة التي كانت لولو تسمعها عنهم" (كتاب فيروز والرحابنة/ مسرح الغريب والكنز والأعجوبة).
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها