الأربعاء 2024/01/03

آخر تحديث: 12:18 (بيروت)

بلادي تيبس مثل شجرة ويداها مرفوعتان...

الأربعاء 2024/01/03
بلادي تيبس مثل شجرة ويداها مرفوعتان...
عمل لـ رونيه ماغريت
increase حجم الخط decrease
هنا

هنا لا ننتظر الأمل من السماء بل من تحت الركام، لعلّ صوتاً لم يغرق بعد في فمه، نسحبه لنسمعه.
هنا لا نعيش بل نحاول فقط أن ننجو.
هنا لا نعدّ موتانا على أصابعنا بل نجمعهم لكثرتهم: مئة ألف زائد ألف زائد مئة ألف إلى أن نُخطىء، ومن جديد.
هنا تتكاثر المدافن من حولنا كأنّما لتدفئنا، نحن الأحياء في برّادات الحياة الرخيصة.
هنا لا نلملم جراحنا بل ننظّفها بشريحة بصل ولا نعرف أبداً على مَن كان يجب أن نلقي اللوم.

هنا بذرة مريضة،

طقس مسلول،

نار صامتة.

كيف باستطاعة أحد أن يقرأ بالعينين؟
هل ينبغي على الطيران أن يُنصِف الطائر؟
لا كلمة تخرج من الفم،

وعالياً في القبب تتقشّر الجداريّات ويسقط غبارها الملوّن في عيوننا.

هنا المدينة تموت على مهل واضعة خدّها في يدها،

من المعروف أنّ مدن البحر تنتهي بأن تذوب كالملح فيه.

 

*****

 

الآن

 

تريد أن تعرف حقّاً ما جرى؟

خذها من فم الذين ماتو قبل قليل، اقلبْ وجوههم وانظرْ في عيونهم:
هناك عطر تأخّر عن الإقلاع،
هناك صدى لم يرجع من الصوت.

كانوا خلال النهار قد قالوا شيئاً لأحد مصادفة، فماذا قالوا؟

وكانوا قد ناموا على فكرة راودتهم بشدّة لكنّها لم تبلغ الشاطىء، فكيف ناموا؟

هذا وترٌ أضاع نغمته،

وتلك نغمةٌ خارج اللحن أُصيبت بتضخّم الأعصاب فتحاملتْ على نفسها،

والأغنية التي راجت طويلاً عرفناها قبل أن تنزل إلى السوق،

حفظناها عن ظهر موت،

كلُّها صمتٌ بصمت.

الآن

أيّ كلمة تنهض لتلبس فستاناً يليق بها؟

أيّ شفة تفترّ إلّا مقطّبة بفاجعة؟

أيّ غراب يستغرب سواده؟

 

على الشرفة المحاذية للبحر،

زرعنا شجرة طويلة من الدم وجلسنا تحتها نتفرّج على الأرض ذات الأثداء العريقة!

 

*****

 

يا أرض

 

يا أرض

وأنت لا تشبعين، كيف تنامين؟

فالدم ثقيل

لا يحمله هواء ولا تحتمله سماء

يتكوّم ويجمد

مثل الدهن ويبرد

لذلك ينبغي شربه ساخناً

أحياناً يكون فاتحاً بلون أرجوان مشالح الملوك

وأكثر الأحيان غامقاً مثل أحمر شفاه الجوع والعذاب...

 

يا أرض

بماذا تحفظين إرث الدم لتجدّدي عهدكِ بالدوران؟

يا ملعونة منذ القدم

يا ممتلئة قتلى

يا مستمرّة بفعل الجناية

نناجيكِ بموتنا قبل أن نولد

وبحياتنا بعد أن نموت

أصواتنا تتطاير

وخبزنا يأكل كفاف يومنا...

 

يا أرض

وأنت لا تشبعين، كيف تنامين؟

فالدم ثقيل

تُفتتح به نشرة الصباح ويسيل بعدها على ما تبقّى من النهار

حتى آخر الليل

حين ننهض فجأة في الظلام ونشاهد الضوء النحيل الذي يرشح من النوافذ ويبدو أنه يدفع نفسه دفعاً كي يصل.

 

*****

الحرب

هل انتهت الحرب لتبدأ من جديد؟

لا أرى نفسي إلّا وأنا أركض ولا أصل

كأنّما الليل لا ينتهي والشمس لا تشرق

فوقي رصاص وتحتي

وخلفي دخان

وأمامي شحوبُ عدم قدرتي على فعل شيء،

كان هناك طريق يفضي إلى البحر

وشجرة واقفة كامرأة تسرّح شعرها وهي تنتظر الهواء

لا البحر عاد

ولا الهواء أتى

والذين ماتوا وقعوا من أعمارهم عليّ

حين اعترضوا على الموت قفزتُ منهم إلى الحياة

إلى ما تبقّى من الحياة،

أيّ سماء ألصق بها دمي؟

أيّ أرض أبصق عليها فمي؟

فيضٌ من الحروف ينتهي لحظة أقلب الصفحة

محروماً

محموماً

أصطدم أوّلاً بجدار ثمّ بجدار

الطُرق مزدحمة بالمتوفّين، ألتهب كمشعل هائل

ولاصقاً شفتيّ المحترقتين بالتراب

أقترب من سور العالم وأمرّر يدي على حجارته الساخنة

عمري معلّق على غبار المعركة

أشيخ بيوم واحد، أعود طفلاً مُدمَّى

وكان أهلي رصدوني لكأس المرارة

ولأشلاء متناثرة تلمع في آخر الزمان،

أيّها الكون

توقّفْ قليلاً، لأضع البخور أمام جثّتك القديمة.

 

*****

 

إلى الجحيم

أغمض عينيّ على السنة التي مرّت وأدعكها بأصابعي كما لو أنّي أدفنها في تلك الزوايا فيصبح ظهرها منخفضاً وسيقانها من الخشب المحنيّ،
ثمّ أقف هنا بين الأصدقاء والنجوم صارخاً بأعلى صوتي: "إلى الجحيم، هاتوا كرسيّاً"!
من الجبل إلى الوادي إلى البحر الواسع المظلم إلى أعماق العار
أصرخ،
بلادي تيبس مثل شجرة ويداها مرفوعتان...
لذلك كلّ صباح أربط الكلمات بالأشجار وأمشي،
يداعب الضوء وجهي
يلفح الهواء خدّ السماء
والماء يمدّ حصيرته البلّوريّة الملوّنة...
لا يتعذّبْ أحد منكم ويشدّ بشعاع ليصل
فالأيّام تسبح بهدوء
والعالم يختبىء خلف ذاكرته إلى أن يأتي الوقت فيخرج من تلقاء نفسه...


العمر معمل عتيق داكن، ما إن تُفتح أبوابه حتى يخرج العمّال يفترشون الأرض وهم يحدّقون في معدّاتهم الخاوية،
بينما تبقى في العتمة رؤوس تطلّ وتختفي أشبه بالأفاعي اللّابدة...


فوق هذا الطريق الذي يُدعى الحياة، الطويل كيوم بلا خبز
كيف نعيش في الظلّ وظهورنا إلى الحقيقة، لا يخطر لنا في الغالب أنّه على بُعد أمتار قليلة تقف الشمس وتترنّح سكرى من التوهُّج بلا مقابل؟

 

 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها