الثلاثاء 2023/12/05

آخر تحديث: 11:14 (بيروت)

"الرأس المقطوع": سقوط المعنى وضياع القصد

الثلاثاء 2023/12/05
"الرأس المقطوع": سقوط المعنى وضياع القصد
الرأس المقطوع" لبرتران دي بورن
increase حجم الخط decrease
ما أثار هذه التأمّلات لديّ، إنّما هي الأحداث الأليمة التي تدور في فلسطين منذ 7 تشرين الأول الفائت من هذه السنة 2023، ولا تزال، منظوراً إليها على خلفيّة القرن الواحد والعشرين الذي صار قرن الحروب والثورات، وبالتالي قرن العنف الذي يُعتبر قاسماً مشتركاً بينها. والحال أنّ أدوات هذا العنف، بمرور الوقت، قد تطوّرت تقنيّاً وباتت لديها قدرات تدميريّة مهولة كأنّما "المزيد من العنف"، بحسب حنّة أرندت (1975- 1906)، "هو خير ضامن للسلام"، ولا يبدو أنّ أحداً يملك اليوم جواباً على السؤال المتعلّق بالكيفيّة التي سيمكننا بها أن ننتزع أنفسنا من العبثيّة الكلّية لمثل هذا الوضع.

فمع ما يحياه كوكبنا في زمانه الحديث من ثورات على الديكتاتوريّات، وحروب على الإنسانيّ ببساطة، تبدو البشريّة أشبه برأس دمية تحرّكها رؤوس أموال عصابات السلطة ومافيوات العسكر، حيث يتصاعد الفكر الإجراميّ وتتكاثر انهيارات الإنسان في القرن الاستهلاكيّ الذي يبدو أنه لا يورث إلّا اليأس المعاصر، وحيث يتقدّم العالم متلفّعاً بدمه ومرتهناً بيد خرافة الرأسماليّة التي تعمل على خلق أسيجة فصل عنصريّ للحواسّ والفكر قبل البلدان.

على وقع الحروب الدمويّة التي تجري في غزّة، وتدمير المباني السكنيّة على رؤوس قاطنيها، وهول المجازر اليوميّة، والسماء التي تحمل غيوماً من الحزن، وقصف الطائرات المتواصل، وقذائف الدبّابات التي تدكّ المسامع وتهزّ القلوب، وقتل المدنيّين والصحافيّين وطواقم الأطبّاء، وتدمير المستشفيات والمدارس والكنائس والمساجد والمجمّعات الإنسانيّة والمؤسّسات الحقوقيّة الأمميّة، واستهداف الأبراج ومكاتب الإعلام، تخرج إلى العلن من جديد وحشيّة الإنسان المتجسّدة بإسرائيل بدعم غير مشروط تتلقّاه من أميركا وحلفائها الغربيّين. فهل من ثورات جذريّة اليوم في الفنّ والشعر تحاكي هذا العنف، وتكون أشبه بحركات العنف الفنّي الذي فجّرته حروب منعطف القرن الماضي كالتعبيرية والدادائية والسريالية وسواها؟

في هذا المجال، يسوقني الحديث عن العنف الجماليّ هذا، إلى ثلاث تأمّلات فنّية صادفتني في فترات متقاربة من القراءة، تشكّل فيها صورة "الرأس المقطوع" وجهاً متشابهاً بالرغم من الفارق الزمني بينها:

1/ "الرأس المقطوع" لبرتران دي بورن: في الكوميديا الإلهيّة، وتحديداً عبر الأبيات الأخيرة في الأنشودة الثامنة والعشرين من نشيد الجحيم، يصوّر دانتي الشاعر البروفنسي برتران دي بورن (1215- 1140) من القرن الثاني عشر يجرّ رجليه متثاقلاً ويحمل رأسه المقطوع، بينما يتأرجح جيئة وذهاباً مثل فانوس، كإحدى الصور الأكثر بشاعة في دليل دانتي الجحيميّ للهلاوس والعذابات، حيث حُكم على دي بورن بلعنة أبديّة لأنّه نصح الأمير هنري بالتمرّد ضدّ والده الملك هنري الثاني، فكان العقاب المبتكر لدانتي أن فُصل بورن عن نفسه، ولهذا السبب ينتحب الجسد مقطوع الرأس في العالم السفليّ، ويسأل المُسافر الفلورنتينيّ عمّا إذا يمكن أن يكون هناك ألمٌ أشدّ فظاعة من ألمه.

ومن أشعار برتران مُمجِّداً القتل والحروب:

"يا لعظيم فرحتي
 حينما تعجّ الحقول
 بفرسان مدرّعة وخيول!
 .....
 وإنّي لأرتعش فرحاً لمرأى الكشّافة
 يُجبرون الرجال والنساء على الفرار بأمتعتهم
 ويحلّق قلبي
 عندما أبصر القلاع العظيمة تحت الحصار
 بينما تتقوّض أسوارها وتنهار
 .....
 وفي خضمّ المعركة سنرى
 صولجانات، وسيوفاً، ودروعاً، وخوذاً متنوّعة الألوان
 تنشقّ وتتهشّم،
 وجحافل تضرب في كلّ اتجاه
 بينما خيول القتلى والجرحى تهيم على وجوهها حول الميدان
 والجثث على العشب وفي الحُفَر،
 وأطراف رماح مكسّرة ومخضّبة تبرز من جوانبها
 .....
 يا أيّها البارونات،
 إنّه لأفضل لكم أن ترهنوا قلاعكم وبلدانكم من أن تتخلّوا عن صنعة الحرب...".

2/ "الرأس المقطوع" لأنسي الحاج: عنوان كتاب الشاعر الثاني (1963) بعد باكورته الشهيرة "لن" (1960)، حيث يظهر المبتدأ وصفته كدلالة توضيحية فيمكن معها فهم العنوان من خلال قرابته مع تلك الجبهات من العنف الفنّي المُعذَّب، وما يمثّله من صدمة ومن قطيعة مع تاريخ الجماليّة الشعريّة العربيّة، كإعلان عنيف عن المضيّ قدماً في توكيد القطيعة. فهذا العنوان لا يجد له أسلافاً ولا أقارب بعيدين أو قريبين في التراث الشعريّ العربيّ، وبذلك نستحضر هنا خياراً متطرّفاً لتفسير هذا التعارض العنيف الباتر مع السائد الجماليّ، بعيداً عن العذوبة والأناقة البلّورية والعاطفيّة مع جيل شعراء ما بين الحربين العالميّتين وصولاً إلى أوائل الخمسينيّات من القرن الماضي. عنوان دمويّ، متعاطف مع الغريزة، وضدّ العقل والمنطق. وهو، مع "لن"، يستبيح المحرّمات، من عنف وقتل ودمار، سبيلاً إلى التحرّر والخلاص. كأنّ في ذلك دعوة إلى تحرير الشعور والذات من حالة الموت في الحياة، بإعطاء الأولويّة وتغليب الغريزة على المطالب العامّة للمجتمع، بكلّ سلطاته السياسيّة والتربويّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة.

ومن تعابير وجُمل هذا الكتاب، مُتغنِّياً بالحرب والموت والقبر والجثّة:
"الحرب. لقد انتصرت شعوب جسمه".
"الحرب معطف الشهوة".

"غنِّ لجلدك المحيط بالموت"، "يدكُّ الجثثَ بسماد البقر"، "نخرج من الجثّة"، "اليوم ماتوا قديماً"، "تنزل المقصلة حاملة أريجها"، "الكوكب الميّت"، "رأيتُ مخرزاً يحفر بطن حامل"، "نُكِحتُ من بؤبؤيّ"، "سوف تُنسَل نسلة نسلة حتى يبرز لحمك العاري ثمّ ينهار لحمك العاري ويسفر عن عظامك ثمّ تُلقى عظامك في الليل".

يُقال أنّ أنسي الحاج (2014- 1937) كان يتردّد، وهو صغير، إلى جريدة "النهار" بصحبة والده مدير تحريرها آنذاك لويس الحاج (والذي أصبح هو في ما بعد رئيس تحريرها أيضاً)، وهناك وقع نظره على صور التشوّه والتفكّك والتحلّل لقتلى مدينتَي هيروشيما وناكازاكي بعد إلقاء القنبلتين الذرّيتين عليهما في نهاية الحرب العالميّة الثانية سنة 1945، حيث تركت في نفسه الأثر البالغ والعميق.

كما أنّه من الناحية الشخصيّة، وتحديداً العام 1945 حين كان في الثامنة من عمره، توفّيت والدته بالسرطان، وكان هو بعد سبعين سنة تقريباً قد توفّي بالمرض نفسه أيضاً، فهل كان مهجوساً بالسرطان من حينها ليؤكّد عليه في مقدّمته "لن" أيضاً؟

وخالدة السعيد في إحدى مقالاتها النقديّة ("أنسي الحاج في "الرأس المقطوع"، "أنهض من زجاج الذاكرة المُهشَّم"، جريدة السفير، الجمعة 19 كانون الأول 2008، العدد 11178، السنة 35، ص 10)- وهي الناقدة الفذّة التي واكبت حقبة مجلّة "شعر" أواخر الخمسينيات وكان أنسي أحد روّادها- رصدت المرحلة التي كان أنسي الحاج يتحرّك في الأفق الذي افتتحته بعض الثورات الفنّية الكبرى في أوروبا في مطلع القرن العشرين، في الشعر والفنون، لا سيّما حركات العنف الفنّي والانقطاع والتمرّد الجذريّة في ألمانيا وفرنسا وبعض المراكز في سويسرا.

كذلك تلاقت امتدادات هذه الحركات وتوجّهاتها في واحدة من شخصيّات القرن الأشدّ مأسويّة وخرقاً وجنوناً، أعني أنتونان آرتو (1948- 1896) الذي خصّه أنسي في مجلّة "شعر" قبيل صدور كتابه الأول "لن" (1960) بمقالة تدهشنا لما فيها من معرفة عميقة بعالم آرتو وفضائه الثقافي وفنّه السوداويّ. آرتو صاحب مسرح القسوة الذي تطغى فيه مشهديّة الرعب ذات الزخم اللغوي والصوريّ، المسرح الذي يُظهر الجانب المأساوي للحياة، ويُظهر الإنسان وهو يصارع الأحوال القهريّة كالمجاعة والحروب وانتشار الأوبئة.

وللمفارقة، فكما يربط آرتو بين "المسرح والطاعون"- المقال الأساسيّ في كتابه الشهير "المسرح وقرينه"، حيث تُسحق الأعضاء وتُكسر مفاصل الجسد، يربط أنسي بين "الشعر والسرطان" في مقدّمة كتابه "لن" التي أرسى فيها قواعد قصيدة النثر: "نحن في زمن السرطان: هنا، وفي الداخل. الفنّ إمّا يجاري، وإمّا يموت. نحن في زمن السرطان: نثراً وشعراً وكلّ شيء".

هكذا يبدو الواقع سرطانيّاً، والحياة سرطانيّة، على غرار الخلايا العضويّة التي تتكاثر إلى ما لا نهاية مع فقدان وظيفتها، ويكون التوالد والتكاثر والتورّم مدعاة خلل واعتلال. تكاثُر فوضويّ يوازيه على نحو ما، هذيان الجنون، هذيان المريض الذي ينتج انهياراً في أمكان جسده وسياقاته الاجتماعيّة.

3/ "الرأس المقطوع" لفالتر هازنكليفر: قدّم فالتر (1940- 1890) في برلين مسرحيّة جسّدت العنف التعبيريّ، بطلُها قاتل وقتيل في الوقت نفسه، يتحرّك على الخشبة حاملاً رأسه المقطوع في كيس. وكان من أبرز روّاد الحركة التعبيريّة الألمانيّة التي جاءت احتجاجاً على الظلم الاجتماعيّ، والبرجوازية الكاذبة، والمادّية المتوحّشة، والحرب العالمية الأولى بكلّ أهوالها وتجاربها المريرة. وُلدت هذه الحركة سنة 1910 وذبُلت سنة 1925، لكن تركت وراءها أثراً عظيماً لتُكمل مسارها إلى ما بعد الحرب العالميّة الثانية من خلال أعمال عديدة في الشعر والقصّة والمسرح، مع كبار أمثال رينهارد جيرنج، برتولت بريشت، جورج كايز، جورج تراكل، إرنست تولر، رينهارد جورجه، أوغست شترام، فرتس فون أنروه، هانز يوست وتوماس بين.

فأمام صور الموت والتشوّه والخراب، وهول الرعب، والمجازر، والتعصّب القوميّ والعنصريّ، وذئاب الهمجيّة، كانت الغاية العظمى للتعبيريّة هي الدفاع عن الإنسان، المطلق العاري، بعيداً عن كلّ الحدود والقيود التاريخيّة والاجتماعيّة والقوميّة والشخصيّة.

ومن نافل القول أن نلقي الضوء على هذه المرحلة، دون أن نأتي بعدها على ذكر الشاعر والمسرحيّ الألماني هاينر موللر (1995- 1929) الذي عاش الحرب الباردة راصداً تأثيراتها السلبيّة على أوروبا حتى سقوط المعسكر الاشتراكي. فكان مسرحه بالغ العنف، حيث يصوّر العالم كمسلخ واسع دائم، في لغة صادمة وعلى نحو مؤلم.

في فيلم سيريّ عنه، نقرأ على بلاطة مدفنه:
"كنت أحبّ أن يكون والدي إحدى أسماك القرش 
لكي يمزّق أربعين حوتاً
وكان بإمكاني تعلّم السباحة في دمائهم 
وأن تكون والدتي حوتاً أزرق".

وفي مسرحيّته الشهيرة "هاملت – ماكينة"، يفتتح المقطع الأوّل:
"كنتُ هاملت. وقفتُ عند الساحل وتحدّثتُ مع الأمواج هراءً. خلف ظهري خرائب أوروبا، افتتحت النواقيس مراسم الدفن الرسميّة، القاتل والأرملة شريكان وخلف الجنازة يسير المستشارون بخطوات عسكريّة ويذرفون الدموع في حزن رخيص الثمن... إذهبي إلى عرسك أيّتها العاهرة تحت الشمس الدنماركية التي تشعّ على الأحياء والموتى، سأدفن الجثة عند مدخل الباب حتى يختنق القصر بالخراء الملكي. دعيني بعد ذلك آكل قلبك يا أوفيليا..."

هكذا يبدو أنّنا نتماهى مع موللر مستمِدّاً من تحفة شكسبير هاملتنا نحن، هاملت عصر الآلة، لانعدام المعنى والأخلاق بلغة ميّالة بصورها القاتمة إلى تقديم اليأس المسيطر على العالم نتيجة هيمنة أقطاب كبرى على مصيره، وانعدام القيمة للإنسان نتيجة تحوّله إلى شيء، كجدار أو آلة (أو حيوان كحدّ أقصى). كأنّ موللر، بمقطعه الافتتاحيّ هذا على لسان هاملت القرن العشرين، وبإسقاط بالغ الرمزيّة نحو الضحيّة الكبرى (أوفيليا/أوروبا)، يبكي على عالم ما زال يطوّر من أدوات القمع والسقوط ويكرّر أخطاءه ليقع في الحُفَر نفسها من الحروب والاستبداد.

ومن الواضح، في هذا السياق، أنّ موللر يريد تقديم المعنى الحقيقيّ لحركة التاريخ على الشعوب، إذ يقول كارل ماركس: "من المستحيل تماماً تجاوز القوانين الطبيعيّة، ما يمكن أن يتغيّر في الظروف التاريخيّة المختلفة ليس سوى شكل هذه القوانين التي تفضح نفسها، فالتاريخ يعيد نفسه في المرّة الأولى كمأساة وفي المرّة الثانية كمهزلة".

فهل نحن اليوم في مأساة أم في مهزلة؟
في مدينة الموتى، يسقط المعنى ويضيع القصد. فبأيّ وسيلة فنّية نستطيع أن نجاري هذا الوحش الذي يُدعى العنف؟ وكيف لنا أن نكسر اللغة كي نصل إلى الحياة، وفي النهاية هل هذا يطهّرنا ويجعلنا نخرج أنقياء وأقوياء؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها