الأربعاء 2023/12/20

آخر تحديث: 12:28 (بيروت)

لغة زياد الرحباني... تخريب حيويّ و"مقدّس"

الأربعاء 2023/12/20
increase حجم الخط decrease
ربّما يكون زياد الرحباني، وهذا رأي شخصيّ، هو الوحيد الذي يكتب اللغة المحكيّة في لبنان، بمعناها القحّ والخام، باختلاف عن "العامّية" التي تمتّ لها الفصحى بصِلة وتمتزج فيها، والتي لا يبدو أن لغة زياد تشترك معها في شيء، لا في التركيب ولا في الصورة بل حتّى لا تتقاطع معها على الإطلاق. بينما الشعراء الباقون الذي كتبوا الشعر والأغنية، خصوصاً الأغنية، من ميشال طراد والرحابنة إلى طلال حيدر وجوزف حرب وعصام العبد الله وغيرهم الكثير، بقيت لغتهم، إلى حدّ كبير، على اتصال وتواصل مع الفصحى، إن على المستوى الصوتيّ أو التركيبيّ أو الدلاليّ أو الصوريّ.

هذا من ناحية التركيب، أمّا من ناحية إطار الكلام، فبينما اكتفى الشعراء مثلاً بالوصف الخارجيّ والوقوف عند عتباته، اضطرّ زياد، حين لزم الأمر، للبحث في إمكانيّة التغلغل أكثر في التفاصيل، وفي تفاصيل التفاصيل، وأودت به الضرورة أحياناً إلى الدخول في أجزاء صغيرة وصفيّة، في الأغنية كما في المسرح، لم يكن للغة المحكية عهدٌ بها قبله. وبينما سعى باقي الشعراء (خصوصاً ما فعله الرحابنة) إلى توحيد اللغة العامّية لتصبح مشتركة وذات بنيويّة متماسكة، أو "بيضاء" حيث تمّ مع الوقت "تشحيل" المفردات المحلّية واللهجات منها لتصبح واضحة ومفهومة من المحيط إلى الخليج، لم يعمل زياد على ذلك. بل على العكس، هدّم وحدتها وفكّك بنيويّتها مُطلقاً إيّاها على تعدّد لهجاتها ونبراتها وتداعياتها. فالآخرون عملوا على البنيويّة، وهو على التفكيكيّة.

لا أقصد هنا بالبنيويّة والتفكيكيّة، الأسلوبيّة فحسب، بل أيضاً الموضوعاتيّة. فبينما تبحث البنيويّة عن التجانس والتوافق والتشاكل وتسعى إلى الكشف عن التماسك وإظهار الصلات بين العناصر المكوّنة للعمل (القصيدة أو الأغنية أو المسرحيّة)، تبحث التفكيكيّة عن الكشف عن الفجوات والتباينات والمآزق المنطقيّة في العمل، كردّ فعل على البنيويّة، وتسعى إلى فلسفة التقويض الهادف والبناء الإيجابيّ وإعادة النظر في فلسفة الثوابت كالعقل والدين واللغة والأصل والصوت.



ليست كما يحكي الناس
قام زياد بهذه المساهمة الفنيّة من خلال العمل على لغة حيّة، راهنة، مقطوفة من اليوميّ الساخن ومعجونة بالمواقف والعواطف اللحظويّة، لغة مدينيّة بما تختزنه المدينة من علاقات سريعة، عابرة ومختلفة في طبيعتها، ومن حيثيّات وتفاصيل هامشيّة، ومن نمط حياة خارجة على الإرث الشعريّ الذي بقي شبه غارق في إطار ريفيّ رومنسيّ لا أحد يقلّل من قيمته وجماليّته، غير أنّه بات جزءاً من الإرث والتقليد المائع البليد الذي اكتفينا منه بل هو اكتفى بحاله من حاله وبات يدور داخل حلقة مغلقة، فارغة واجتراريّة في معظم الأحيان. أكثر من ذلك، وإلى جانب شغله الفنّي المتقن، استطاعت لغة زياد أن تبقى على طبيعتها وبساطتها وطلاوتها، لأنّها صنيعة الشعور الحاف الخارج على البلاغة التقليديّة بتداعيه التلقائيّ واستطراده الحرّ. وللمفارقة، كلّ كلام حول أنّ زياد يكتب كما يحكي الناس، ليس صحيحاً. إنّما الصحيح أنّ لغته تنبع من الناس لتذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، إلى مدى جماليّ خاصّ بها، مركّب لدرجة يبدو معها تلقائيّاً. فلا أحد منّا مثلاً يقول "ملّا إنتَ" (من أغنية "كيفك إنتَ")، أو "ضحكات عيونو ما بينقصو" و"تعبان على سكوتو ودارسو" (من أغنية "سلّملي عليه")، أو "ما بْيِحْرِكْلَكْ ساكِنْ" (من أغنية "أمّنلي بيت")، أو "على مدى كذا نهار" (من أغنية "ألله كبير"). ممّا يدلّ على أنّها لغة مشغولة بذكاء حادّ وإحساس عالٍ، وتتّسم ببلاغة استثنائيّة خاصّة بها، لا تنهل من الكتب بل من مجرى الحياة المتدفّق المتجدّد، وغير جاهزة ومقولبة بل وليدة اللحظة والشعور والموقف. لغة فجّة ورقيقة في آن، ساخنة وساخرة، دافئة ومتمرّدة، ولها نزعات من العبث والتفكّك والهذيان. لغة إنسانيّة بكلّ أبعادها وتخريفاتها.



من عاصي ومنصور إلى زياد
لستُ هنا بصدد تقييم شعريّ أو نقديّ موسيقيّ لمسيرة الأخوان الرحباني ومسيرة زياد، ومحاولة المقارنة أو المقاربة بين المسيرتين، بحيث هناك الكثير من أوجه الائتلاف والاختلاف معاً. فذلك يتطلّب القيام ببحث عميق لسنوات طويلة من الجهد والعناء، ما يصلح لأن يكون أطروحة أو كتاباً ضخماً. ثمّ إنّي لا أدّعي امتلاك الثقافة اللازمة والمعرفة المطلوبة لخوض غمار مثل هذا المشروع، لكنّي أجد أنّ موضوعاً بمثل هذه الأهمّية، كغيره من الموضوعات التي لا وقت لذكرها هنا، لم تأخذ حقّها في عالمنا الكتابيّ العربيّ ودراساتنا الموسيقيّة، خصوصاً أنّ هذا النتاج العظيم يمثّل واقعنا اللبنانيّ خير تمثيل، في جميع عواطفه ومشاكله وأحلامه، ما قبل الحرب كما ما بعدها أيضاً. ما أودّ قوله فعلاً هو أنّ أيّ مقارنة بين الأمس واليوم هي غير مُجدية، وأيّ محاولة للتمييز بين قديم وجديد هي محاولة لا معنى لها، إلّا من باب اعتبار الجديد شكلاً من أشكال استمرار الحياة بأشكال ومضامين ومفاهيم مختلفة، نظرة مغايرة للعالم وعلاقاته.

فعلى سبيل المثال، هل تجوز مقارنة لبنان اليوم بلبنان الأمس، التاريخ بالحاضر، إلّا لأخذ العِبَر مثلاً؟ على الأقلّ هناك الحرب التي ينبغي ذكرها بينهما كحدّ فاصل قاطع، وذكر ما هدّمته من قيم وأحلام. فزياد ابن هذا الهدم بل وريثه الحقيقيّ، بكلّ تفاصيله المنتشية والسوداويّة والمملّة حتّى. ليس نقده لأهله نقداً موسيقيّاً (أعاد توزيع الكثير منه) بقدر ما هو نقد سوسيولوجيّ لعقليّة القديم التي كانت سائدة قبل الحرب، ولفكرة لبنان المتحدّر من جبل لبنان، وما تمثّله هذه الفكرة من أحلام شاعريّة وأضغاث مثاليّة لم تعد جذّابة اليوم بحيث كانت الحرب كفيلة بفضحها وتحطيمها وصارت فعلاً "شي فاشل". فكان من الطبيعيّ ما أتى به زياد، إذا نظرنا إلى أعماله على أنّها تعكس المجتمع اللبنانيّ خلال الحرب وبعدها، تماماً كما كانت أعمال أهله تعكس هذا المجتمع نفسه قبل الحرب.

أبعد من ذلك، حاول زياد في كلماته وموسيقاه، أن يخرج بالفنّ من سكونيّة الماضي وإطلاقه في الحاضر، بلغة جذّابة، ساحرة، ساخرة، سوداء، مضطربة، واضحة، قلقة لا تنام على حقيقة أو بديهة، تطرب وهي تضحك على الطرب، تزعج وتسلّي وفيها رسالة، تفشّ الخلق وتجرح، مضحكة لشدّة الوجع وموجعة لشدّة الضحك إلى درجة الهستيريا أحياناً. بينما لغة أهله صافية هادئة، رومانسيّة تسرح في أفياء الطبيعة. فهم أتوا من الضيعة ونزلوا إلى المدينة، مشبعين بالمشاهد الطبيعيّة وفانتازيا الطفولة والأساطير والقصص التاريخيّة والبطولات والعنفوان والمحبّة والألفة والتعاون، بينما هو لم يختبر إلّا قسوة الحرب والمدينة وفرديّتها في إيقاعاتها الضوضائيّة وعلاقاتها المضطربة. كما أنّ الرحابنة حاولوا بناء وطن في أغانيهم ومسرحيّاتهم، خلق هوّية وأسطورة له، من خلال العمل على تراثه ورصد ذاكرته وتحصينه بمجموعة من القيم. في حين لم يرث زياد إلّا الخراب والإحباط واليأس وخيبات الأمل.

كثيرة هي المفارقات بينهم، بين عصرين مختلفين اختلافاً جوهريّاً، لذلك أنوي التوقّف عند ثيمة واحدة على سبيل المثال لا الحصر هي ثيمة الحبّ، محاولاً إلقاء الضوء سريعاً على المعجم اللغويّ الذي تتشكّل منه في التجربتين:



الحبّ / المرأة

أ – عند الأخوين الرحباني، ينتمي الحبّ إلى صورة الضيعة - المجتمع. فدائماً هناك ناس وأعراس وحفلات خطوبة وليالي سهر، والجميع يتلاقون في الساحة، أو تكون العلاقات العاطفيّة شبه سرّية وعلى انفراد، يُحاك أغلبها في أماكن مغلقة لكن دافئة ورومانسيّة ("في قهوة ع المفرق في موقدة وفي نار"، "فايق ع سهرة وكان في ليل وندي والنار عم تغفى بحضن الموقدي"، "على ضوّ شموع")، أو في الطبيعة في الهواء الطلق ("مبارح تلاقينا قعدنا ع حجر/ برد وحوالينا عريانة الشجر") بجمال سحرها وتنوُّع فصولها ("حبّيتك بالصيف حبّيتك بالشتي"، "ورق الأصفر شهر أيلول") حيث تمتزج العواطف بالعناصر الطبيعيّة في شيء من "الحلوليّة"، فتنعكس حال الطبيعة في حال العاشقين كأنّنا أمام لوحة انطباعيّة، فاللقاء يكون في الصيف أو في الربيع والفراق في الخريف أو في الشتاء، ممّا يولّد حالة تطابقيّة بين فرح أو حزن الإنسان وبين فرح أو حزن الطبيعة. أكثر من ذلك، تتجلّى الطبيعة بشكل قويّ في معظم أغانيهم العاطفيّة حيث يقطفون منها غالبيّة صورهم الشعريّة (الحجر، الشجر، الجبل، الوادي، الطير، القمر، النجوم، الجسر...إلخ)، فتكثر أنواع الورود والزهور (سوسن، فلّ، ياسمين، درج الورد، حبق ومنتور...) والطيور (بلبل، عندليب، الوروار، سنونو، حساسين...). إضافة إلى ذلك، تحدث هذه اللقاءات عادة في الليل، بعيدة عن الأعين، كأنّها احتفال مقدّس في جوّ مغلق يكتنفه السرّ والسحر ("الضبابه"، "ما حدا يعرف بمطرحنا")، وكما في أغنية "سكن الليل" (من كلمات جبران خليل جبران): "لا تخافي يا فتاتي، فالنجومْ تكتمُ الأخبارْ/ وضبابُ الليل في تلك الكرومْ، يحجبُ الأسرارْ".

في المقابل، ينزع الحبّ عند زياد نزعة واقعيّة، مثله مثل باقي الأمور في المدينة، حيث لا يتّصل بالطبيعة إلّا في ما ندر، فلا تظهر سماء ولا نجوم، ولا تعبر طيور، ولا تتفتّح زهور، ولا تمرّ نسمة، ولا تتعرّى أشجار، وإذا ظهرتْ فلوظيفة معاكسة، بل تتقدّم عليها أحداث واقعيّة ذات علاقات داخليّة في المطعم مثلاً أو في الحانة ("من الأفضل إنّك تحتشمي"، "إن فير شي نو") أو في الغرفة ("شو بخاف"). حتّى أنّ هذه العلاقات لا تحدث في الطبيعة ولا تمتّ بها بأيّ صلة، نازعاً عنها صفة الرومنسيّة، وهالة السرّية، وصفة السحر، لتغدو علاقات عابرة مادّية من لحم وعظم، تُلمَس وتُقال وتُعاش("لا تفتكري من بعدِك بطّل يطلع زهور"). وفي حين كان "درج الورد مدخل بيتنا" مع الأخوان رحباني، تحوّل هذ البيت الجبليّ الساحر المغمور بالأزهار والورود مع زياد إلى شقّة مُستأجرة في بناية باردة وسط المدينة حيث يتمنّى العاشق لو أنّ "الباب تحت البيت مش حديد".

ب – عند الأخوين الرحباني، تكثر الرموز والإشارات حيث يرسل العشّاق "علامات" أو "إشارات" بعضهم لبعض ("قنديلك ضوّيه/ قوّي الضوّ شويّه وارجعي وطّيه/ بيعرفها علامة، برداية عم تلوح، صُوَر، مكاتيب، مراسيل")، في علاقات ترتكز على التفاهم من خلال "الومى" والتحدّث بلغة العيون ("لَشو الحكي؟") والاكتفاء بالنظر ("هِمْ بالنظرْ" (لسعيد عقل) دلالة حبّ جميل، طاهر، نقيّ، ساحر وأبديّ لا يموت. بينما عند زياد، ينتهي الحبّ ويموت ككلّ شيء ("ليش تا هالحبّ ما يموت؟ بيموت")، وينزع إلى علانيّة صريحة صارخة لا تأخذ بعين الاعتبار السرّ والخفر، بل تتّصف بالرغبة العلنيّة والشهوة غير الشرعيّة ("من الأفضل إنّك تحتشمي/ في ظابط مدري بكم نجمي")، وتتطرّق إلى جدليّة الحلال والحرام ("كيفك؟ قال عم بيقولو صار عندك ولاد، بتطلع ع بالي رغم العيل والناس، إنتَ حلالي").

ج – وبينما يشدّد الأخوان الرحباني على لهجة اللوم والعتاب في الحبّ، لا يهتمّ زياد لمثل هذه المسائل إذ لا يعاتب بل يتمنّى عدم تكرار العلاقة العاطفيّة ("تنذكر ما تنعاد")، ويواجه نهايتها باللامبالاة ("بتمرق ما بتمرق مش فارقة معاي"). 

العاشق الضدّي/ الأنتي عاشق
("صرلو شهرين عالمجلى البقلاوة")
يمثّل زياد صورة العاشق المُهمِل اللامبالي الذي يعيش لوحده، ويؤمن بالمساكنة، الفوضويّ، "المكركب" الذي لا ينظّف بيته أو ربّما هي الحال بغياب الزوجة، المرأة، ولا يمتلك شيئاً ممّا تحبّه المرأة تربويّاً واجتماعيّاً وتقليديّاً.

صورة العاشق التي قدّمها في معظم أعماله، هي صورة العاشق الفاشل (منذ "من مرا لمرا عم ترجع لورا" إلى "ملّا إنت") الذي لا ينجح في علاقاته العاطفيّة لأنّه يوحي بطريقة ما بأنّه غير اجتماعيّ وغير متملّق ويصرّح بالأشياء كما هي، بلا تكلّف ولا تنميق، ولا يعرف أن يكذب ويرمي الكلام المعسول. وفوق ذلك، هو الملتزم قولاً وفعلاً بالهمّ المعيشيّ يوماً بيوم، وبقضايا الوطن والمواطن، وبهموم الحرب، عاكساً إيّاها في الكثير من الأحيان على العلاقات العاطفيّة ("أمّنلي بيت مطرح منّك ساكن/مش همّ يكون طابق منّو آمن")، ما يجعل العلاقات العاطفيّة تبدو ثقيلة وخاضعة للواقع، ولا أجنحة لها لتطير خفيفة وسعيدة  في سماء الحبّ.

أغنية بقافية واحدة أو بقافيتين بشقّ النفس
لا يلهث زياد وراء القافية التي تشكّل أغلب الأحيان "لزوم ما لا يلزم" عند شعراء العامّية بحيث تتكرّر بشكل ممجوج مقيت، حتّى أنّها تبدو الشغل الشاغل التي تأخذ في دربها الكثير من زخم أفكارهم، فتلوح ملصقة لصقاً، متكلّفة، مصطنعة أو مدحوشة دحشاً في أماكن ليست لها أو لا فائدة من ورودها واستخدامها، فتأتي في سياق مُتعمَّد لتكمّل ما لا طائل منه. بينما يبدو زياد مرتاحاً أكثر في هذه اللعبة العروضيّة، بحيث يتعامل معها بعفويّة أكثر فتأتي في الأغنية بشكل طبيعيّ كأنّها لا تشكّل لديه فارقاً ذا أهمّية، بل تغدو جديدة، متجدّدة، مذهلة ومغايرة، وكأنّ أحداً لم يفكّر بها قبله، فيبدو أنه هو الذي اخترعها ("الكبريتي، نفرتيتي، التتخيتي"). أكثر من ذلك، باستطاعته تأليف أغنية كاملة (أو مقطعاً كاملاً) من قافية واحدة من دون انتباهنا إلى تكرارها كما في أغنية "عندي ثقة فيك" ("عندي ثقة فيك، عندي أمل فيك، وبيكفّي، شو بدّك إنّو يعني موت فيك، والله رح موت فيك، صدّق إذا فيك، وبيكفّي، شو بدّك منّي إذا متت فيك").

خربطة
("أنا ما تغيّرنا، إنتِ اللّي تغيّرنا")
هذه الخربطة في الصرف والنحو: الضمير المفرد يستوجب بالعادة فعلاً بالمفرد مثله، تطابقاً، يستخدمها زياد بالجمع للقول بأنّه هو لم يتغيّر في العلاقة العاطفيّة بل بقي كما كان، بينما هي (العاشقة) التي تغيّرت إذ اكتشفت فيه ما كان موجوداً في الأصل، فتركته للأسباب نفسها التي أحبّته من أجلها ("لأنّك زعلان بتضلّ، وبتضلّ مْنَكْوَتْ، ولأنّك أَخْوَتْ"). السبب هو النتيجة. هكذا، بمنطق زياد، يحضر السبب في الحبّ فيبطل العجب كما يقول المثل، ولا تعود الغاية تبرّر الوسيلة بلغة ماكيافيلي، فلا يستخدم هذا المبدأ لتبرير الوسائل غير المشروعة للوصول إلى غاية مباحة.

حُكيَ ويُحكى الكثير عن اللغة العامّية في لبنان، وخصوصاً في الشعر والمسرح والأغاني، ولا يؤتى كثيراً على ذكر لغة زياد الرحباني كما يجب، وفي ذلك إجحاف ليس بحقّه فحسب بل بحقّ هذه اللغة. فأغاني زياد ومسرحيّاته واسكتشاته، ساهمت مساهمة كبيرة وفريدة من نوعها في بلورة هويّة لبنان في الحرب وما بعدها حتّى اليوم، تماماً كما ساهم أهله في بلورة هويّة لبنان قبل الحرب.
_______________

(*) كانت هذه أفكار سريعة، وعناوين متفرّقة ومتشتّتة عن زياد الرحباني ولغته، على أمل دراستها والعمل عليها وعلى سواها يوماً ما بطريقة أوسع وأعمق.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها