الجمعة 2023/09/08

آخر تحديث: 13:08 (بيروت)

إيرادات "بيت الروبي"... حقائق وأكاذيب

الجمعة 2023/09/08
increase حجم الخط decrease
يهوى القائمون على صناعة السينما في مصر، اختلاق الأكاذيب والترويج لها وتصديقها، مع أنهم يعرفون أنهم صانعوها، والأهم من ذلك أنهم يطالبون الآخرين بالتعامل معها على أنها حقائق مسلّم بها. وأقوى هذه الأكاذيب وأوسعها انتشاراً في الأيام الأخيرة ما يخص فيلم "بيت الروبي" والترويج له على أنه أكثر الأفلام المصرية ف تاريخها تحقيقاً للإيرادات فى صالات العرض، باقترابه من جني 125 مليون جنيه (نحو أربعة ملايين دولار وفق الأسعار الرسمية فى مصر) متجاوزاً بذلك فيلم "كيرا والجن" الذي قيل أن إيراداته وصلت إلى 120 مليون جنيه قبل عامين.

وواقع الأمر أنّ هذه الأرقام مشكوك في صحتها ولا تقف على قدمين ثابتتين، إذ إنها لا تصدر عن جهة رسمية مثل غرفة صناعة السينما أو نقابة المهن السينمائية أو حتى مصلحة الضرائب في مصر، وإنما تتداولها وسائل الإعلام شفاهة، وتروج لها، نقلاً عن شركات التوزيع التي يعنيها في المقام الأول الدعاية لأفلامها وتقديمها للمتلقي على أنها الأكثر نجاحاً في تاريخ السينما المصرية لأسباب تجارية لا تخفى على أحد، بدليل أن هذه الأرقام الفلكية المعلنة لإيرادات الأفلام ليست هي ذاتها التي تتم بها محاسبة أصحابها ضرائبياً.

وقد سألتُ مسؤولاً سابقاً في إدارة ضرائب المهن الحرّة في مصر، عن حقيقة هذه الأرقام، فقال لي أنه من المفترض نظريا أن يراقب شباك التذاكر في كل صالة عرض، مندوب من الضرائب، وأن يقوم دورياً بمراجعة المباع من التذاكر وحساب ضريبة الملاهي التي تحصّلها الدولة عن هذا النشاط السينمائي، بصرف النظر عن واقع الممارسة الفعلية لتلك العملية التي تخضع أولا لضمير أصحاب صالات العرض وشركات التوزيع من جانب، ومندوب الضرائب من جانب آخر. وأشار إلى أنه يتحدّى أي شركة توزيع أو جهة إنتاجية، أن تظهر أوراقاً رسمية تتضمّن هذه الأرقام الفلكية، فساعتها ستُحاسب ضريبياً وفق تلك الأرقام، وهو ما لا يفضلونه بطبيعة الحال. وأضاف المسؤول أنهم في هذا الصدد يعانون أيضاً من إثبات الأرقام الدقيقة لأجور الفنانين، فما يتم الترويج له من أرقام شيء، وما يتم التحصيل الضريبي على أساسه شيء آخر تماماً، خصوصاً في ما يتعلق بالمداخيل الضخمة لكبار النجوم أمثال عمرو دياب وعادل إمام ومحمد رمضان.

ومن المهم هنا التأكيد على أن التشكك في صحة الأرقام المعلنة عن إيرادات الأفلام لا يعني أن فيلماً مثل "بيت الروبي" لم ينل حظه من النجاح. فالفيلم يحمل الكثير من مقومات بقائه فى صالات العرض، بداية من أبطاله كريم عبد العزيز ونور وكريم محمود عبد العزيز، ومخرجه بيتر ميمي صاحب كل الأفلام الناجحة في السنوات الأخيرة، وصولاً إلى أحداثه التي تدور حول عالم الـ"سوشيال ميديا" وأثرها في الأسرة المصرية. والتحفّظ هنا فقط على أرقام الإيرادات المبالغ فيها والارتكان إليها للترويج للفيلم على أنه أكثر الأفلام جماهيرية في تاريخ السينما المصرية رغم اختلال المعايير واختلافها من حقبة زمنية إلى أخرى. فثمن تذكرة السينما الذي كان بالقروش حتى مرحلة السبعينيات، أصبح يتجاوز الآن المئة جنيه مصري، وعدد دور العرض وكذلك عدد مرتادي السينما قياساً إلى النمو السكاني المضطرد بات مختلفاً عما مضى. وفي هذا ظلم كبير لعشرات الأفلام القديمة.

مثلاً، أيام فيلم "إسماعيلية رايح جاي" (1997) من بطولة محمد فؤاد ومحمد هنيدي وإخراج كريم ضياء الدين، كان نجاح أي فيلم يقاس بعدد أسابيع استمراره في صالات عرض الدرجة الأولى، وهو معيار أظنه أكثر دقّة لأنه يعتمد على حساب نسبة المقاعد المشغولة إلى عدد المقاعد الكلية في كل صالة عرض، وهو ما كان يعرف بـ "hold over" كمعيار وحيد لبقاء أي فيلم في صالات العرض السينمائي. أما بعد الفيلم المذكور، وبداية من فيلم "صعيدي في الجامعة الأميركية " في العام التالي مباشرة، تغير الكثير من آليات العمل السينمائي في مصر، فساد تيار سينما الشباب بنجومه الجدد، واختفى - أو كاد - جيل كامل من النجوم، وضخت رؤوس الأموال الضخمة في تلك الصناعة، وتحوّلت طقوس الفرجة السينمائية من دار العرض التقليدية إلى صالات السينما المحدودة داخل المراكز التجارية، وبات نجاح أي فيلم مرهوناً بإيراداته وأصفاره الستة، ما فتح مجالا للمزايدة بين شركات الإنتاج والتوزيع حول أرقام هذه الإيرادات.

وانطلاقاً من هذا المعيار الصارم والدقيق الذي كان معمولاً به حتى العام 1997، يمكننا أن نقول بكل ارتياح، أنه في تاريخ السينما العربية كله، هناك فيلم واحد تجاوز حاجز الخمسين أسبوعاً في دور عرض الدرجة الأولى، ‬هذا الفيلم ـ كما أصبح معروفا للجميع ـ هو‮ "خللي بالك من زوزو‮"، ‬الذي يحمل توقيع مخرجه حسن الإمام ومن بطولة سعاد حسني، وقد استمر 55 أسبوعاً، حينما كان أنجح الأفلام لا‮ ‬يستمر أكثر من 12 أسبوعاً فقط.، ولولا الأجواء التي أعقبت حرب أكتوبر 3791، لربما امتدّ عرض "زوزو" لأسابيع أخرى. ‬وهذه الحقيقة التي تؤيدها الأرقام والبيانات، ترد على ما دأب على ترداده صنّاع فيلم‮ "‬أبي فوق الشجرة‮" ‬من أنه صاحب الرقم القياسي في البقاء في دور عرض الدرجة الأولى، ‬وحقيقة الأمر أن‮ّ "أبي فوق الشجرة‮" ‬الذي عرض في سينما "ديانا"، ‬استمر 33 ‬أسبوعاً فقط وليس 39 أسبوعاً.‮ ‬وبالمناسبة،‮ ‬فإن فيلماً آخر‮ ‬غير‮ "‬أبي فوق الشجرة‮" ‬هو الذي‮ ‬يأتي في الترتيب الثاني بعد‮ "‬خللي بالك من زوزو‮"، ‬هذا الفيلم هو‮ "‬إسماعيلية رايح جاي" الذى استمر عرضه لمدة 46 أسبوعاً في سينما "كايرو"، وهو الفيلم الذي أحدث تلك التغيرات الكبرى في سوق العمل السينمائي في مصر طوال ربع القرن الأخير. وعليه فإنه فإذا ما افترضنا صحة الـ"125 مليون جنيه" التي حققها "بيت الروبي" في ثمانية أسابيع منذ بداية عرضه في 21 حزيران الماضي، فماذا كان بإمكان الأفلام الثلاثة المذكورة أن تحقق من إيرادات لو تم عرضها الآن؟! 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها