الجمعة 2023/09/22

آخر تحديث: 12:57 (بيروت)

"الكونت" لبابلو لاراين.. الديكتاتور وأحواله الغريبة

الجمعة 2023/09/22
increase حجم الخط decrease
11 أيلول/سبتمبر موعد يبدو أن التاريخ قد راكم فيه بعض فظاعاته وأحداثه الفارقة. آخرها، قبل 22 عاماً، كان الهجوم الإرهابي على البرجين في نيويورك. لكن هناك حدث آخر ويشكّل أهمية خاصة بالنسبة لأميركا اللاتينية. إنه الانقلاب على سلفادور الليندي، رئيس تشيلي حتى العام 1973، والذي اغتيل في قصر لامونيدا. وقد اُرتكب كلا العملين تحت قيادة قائد الجيش التشيلياني، الجنرال أوغستو بينوشيه، الذي تولّى رئاسة البلاد على الفور وظلّ في السلطة رسمياً حتى العام 1990 (وما بعده).

وكما كان بعيد المنال عن العدالة، فإن بينوشيه شخصية غير مريحة أيضاً بالنسبة للسينما التشيليانية، بالطريقة ذاتها التي تنأي بها السينما العربية عن مقاربة الحكاّم المستبدين المحليين. هذه الصعوبة في التعامل مع شخصيات، بعيداً من رفضها الحازم والجمعي من قبل البنية الاجتماعية بأكملها، لا تزال تملك مَن يدافع عنها وعن سياساتها (في مرتفعات الإنديز كما في منطقتنا الميمونة)؛ تجعل ظهور فيلم مثل "الكونت" لبابلو لاراين حدثاً/شيئاً غير متوقع. بل وحتّى غير مريح، لأنه يضع المشاهدين في مسارٍ جديد وغير معروف، يتعلّق بتصوير وتمثيل المسؤولين عن مآسي جماعية بهذا الحجم، ليس من خلال أنواع "جادة" مثل الدراما أو الأفلام الوثائقية، بل من خلال أنواع أخرى "دنيوية" كالكوميديا السوداء والرعب.

هذا ليس بغريب عن بابلو لاراين (1976)، وهو سينمائي تشيلياني يحبّ تصوير الشخصيات التاريخية ذات الصلة بعالمنا وواقعنا. وعلى الرغم من أن هذا الاهتمام قد يقوده إلى أن يصبح مبدعاً يمكن التنبؤ به، إلا إنه في حقيقة الأمر يجد دائماً طريقة لقلب النوع (سينما السيرة الذاتية) رأساً على عقب. جانب مهم من نجاحه عائد إلى أنه بدلاً من التركيز على رواية حياة وعمل شخص ما بالكامل، فإنه يفضل التركيز على حدث واحد غيّر مسار كليهما. في "جاكي" (206)، كان اغتيال جون كينيدي، وفي "نيرودا" (2016)، كان الاضطهاد الشيوعي الذي عانى منه الشاعر، وفي "سبنسر" (2021)، كان كريسماس 1991 حيث كان على الأميرة ديانا أن تواجه حقيقة زواجها الملكي. الآن، يقدّم لاراين أكثر أعماله جرأة وإثارة للجدل في مسيرته المهنية الممتدة لعقدين تقريباً؛ فيلمٌ يضع أوغستو بينوشيه في مركزه، على الرغم من أنه لا يفعل ذلك بطريقة تقليدية. وبدلاً من أن يرينا حياته وديكتاتوريته، قرّر أن يأخذ شخصية الجنرال ليصنع كوميديا سوداء عن إرثه والبصمة التاريخية التي تركها في بلدٍ مجروح إلى الأبد من أفعاله.

تشيلي بلد منكوب يطارده شبح، وهذا الشبح اسمه أوغستو بينوشيه. قبل خمسين عاماً، بدأت دكتاتورية الجنرال، الذي مارس عهد الرعب بالقتل والتعذيب. حين انتهى حكمه، وجّهت إليه تهم، ولكن لم يمثل أمام المحكمة لأسباب صحّية، وبالتالي لم يُدن أبداً. هذا هو الإرث الذي اختاره بابلو لاراين لفيلمه، الفائز أخيراً بجائزة السيناريو في مهرجان البندقية السينمائي، والذي بدأ عرضه عالمياً في "نتفليكس" في الخامس عشر من الشهر الجاري، أي بعد أربعة أيام من الذكرى الخمسين للانقلاب الذي أوصل بينوشيه إلى السلطة.

"الكونت" فيلم رعب وكوميديا سوداء، بطلها بينوشيه، الذي يستحيل هنا مصّاص دماء، لم يمت أبداً. بعد سنوات من رؤية ما جنته أفعاله على عائلته ونسبه وإرثه، قرّر الديكتاتور التشيلياني أن الوقت قد حان ليموت ويغادر هذا العالم. خايمي فاديل، الذي عمل بالفعل مع لاراين في مناسبات أخرى، يعيد الحياة إلى الجنرال، ويتولّى دوراً يمكن بسهولة تخيّله أحد تلك الأدوار التي يدور الحديث عنها كثيراً لنهاية العام. هنا، يعيش بينوشيه معزولاً في مزرعة نائية، حرفياً في نهاية العالم. هو لا "يحيا" حقاً، بالمعنى الدقيق للكلمة، بل يعيش مخلّداً كمصّاص دماء. يمتد أثر دمائه عبر التاريخ، بدءاً من فرنسا في عهد لويس السادس عشر. في وقت لاحق، ينجذب إلى أميركا الجنوبية، حيث يختار تشيلي مقاماً.

مسيرة بينوشيه يرويها صوت نسائي باللغة الإنكليزية متدفق من خارج الشاشة. بخلاف ذلك، تتحدّث شخصيات الفيلم الإسبانية بشكل عام. وباقتراب نهايته، تنكشف هوية الصوت الإنكليزي.


فكرة الفيلم محفوفة بالمخاطر وثقيلة إلى حد ما، بالنظر إلى حقيقة أن تشيلي إلى الآن لم تتصالح مع إرث ديكتاتورية بينوشيه. لكن هناك نقاط مثيرة للاهتمام في مقاربة هذه الشخصية التاريخية. بالنسبة للبعض، من غير الحسّاس تماماً أن نأخذ شخصية بينوشيه لتقديمه كمصّاص دماء نجا من فظائع تسبّب فيها هو نفسه في الحياة الحقيقية ومزَّقت تشيلي إلى الأبد. بالنسبة لآخرين، هذه طريقة بارعة للتعامل مع ظِلّ ما فعله كديكتاتور، ومن خلال تقديمه كوحشٍ خيالي يمكن معالجة نقاط ومسائل قد تكون أكثر تعقيداً أو إيلاماً من الناحية الواقعية. وبالمثل، كونه كوميديا سوداء، يمكّن صانعه من منحه بعض الكماليات السردية لمقاربة شخصيته ونقدها من زوايا مختلفة.

هذا النقاش والجدل حاضر في صميم بنية "الكونت"، الذي يتخيّل بينوشيه كمصّاص دماء يبلغ من العمر 250 عاماً يحاكي موته ليُترك وشأنه. هذه هي نقطة البداية المحددة التي يقترحها الفيلم للتعامل مع القصة، باستخدام وسائل وموارد مثل العبثية أو الدموية (هناك تمثيل صارخ وفاقع للعنف الجسدي). وبهذه الوسائل، يقترح أيضاً تسجيل حقائق مختلفة تسمح لآثار تلك الدكتاتورية بالبقاء حاضرة (أو "حيّة"، بعبارات مصّاصي الدماء) اليوم.

وبهذا المعنى، يمكن الاتفاق على أن نموذج مصّاص الدماء المطبَّق على ديكتاتور مثل بينوشيه (مسؤول عن نظامٍ استنزف دماء بلاده حرفياً، ليس فقط في الأمور السياسية والاجتماعية، بل أيضاً اقتصادياً)، هو نموذج مناسب، وجلي أيضاً. لدرجة أنه حين نظمه كأمثولة أو قصة رمزية ينتهي به الأمر (لحسن الحظّ) إلى أن يصبح نثرياً لا شعرياً. من المستحيل معرفة ما إذا كانت هذه هي نيّة لاراين، على الرغم من أن الاقتراح الجمالي لفيلمه، المصوَّر بالأبيض والأسود (أو ربما وصفه بالرمادي سيكون أكثر دقّة) وبتصويرٍ سينمائي مذهل، يُظهر بحثاً شعرياً ملحوقاً بنجاحات عديدة. أيضاً، الاستعارة نفسها في نهاية المطاف تصير خشنة بعض الشيء (أو جداً)، ولكن بالرغم من هذا، تنتهي بالعمل بشكل متوافق للغاية مع المزاج العبثي والفكاهة السوداء والنبرة الساخرة القاسية التي يصوّر بها المخرج شخصياته.

ليست هذه المرة الأولى التي يقترب فيها لاراين من دكتاتورية بلاده عبر سينماه. فعلها، على سبيل المثال، في "توني مانيرو" (2008) وفي "لا" 2012))، حيث لم تعمل النوايا "الجدّية" دائماً لصالح القصص التي انتهى بها الأمر إلى أن تكون اختزالية بعض الشيء. في المقابل، تعمل الفكاهة السوداء والنبرة الساخرة بشكل جيد، وتتناقض مع الجدّية التي عادة ما تسري خلال تناول هذه المواضيع الحسَّاسة. في "الكونت"، تسمح اللعبة الفظّة المتمثلة في تحويل الدكتاتور وزوجته وأطفاله إلى معرضٍ فظيع من الغرابات، للفكاهة السوداء بالوصول إلى لحظات جيدة. بهذه الطريقة، يمكن أيضاً اعتبار الفيلم بمثابة "منبر" هجائي، عبر استخدامه وسيلة الاقتراب من شخصياته بطريقة عدوانية، كما لو كانت عملية رجم علنية. صحيح أن لاراين هنا يحاول مرة أخرى تصوير بينوشيه كتجسيد خالص للشرّ. لكنه أيضاً، وربما للمرة الأولى في مسيرته السينمائية، يوسّع دائرة المسؤولية إلى ما هو أبعد من الدكتاتور، الذي لم يكن في النهاية أكثر من مجرد اليدّ المنفذّة في خدمة قوى، إلى الآن، لا تزال تتوارى خلفه.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها