الثلاثاء 2023/07/04

آخر تحديث: 13:11 (بيروت)

هل يَطرَب الجمهور للأذان والأناشيد الدينية؟...فرقة "الكِندي" الصوفية تُجيب

الثلاثاء 2023/07/04
increase حجم الخط decrease
في عصر الذكاء الاصطناعي وطغيان عالم المادة على عالم الروحانيات، تتردّد الأسئلة الى الذهن كلما نسمع عن فرقة موسيقية صوفية تحاول إحياء تراث السماع والذكر والأناشيد والموشحات والإبتهال والمدائح وحلقات الدراويش الراقصة، من هو جمهور هذا النوع الصعب من الموسيقى والطبقات الصوتية العالية التي نشأت أصلاً في أفغانستان وباكستان والمغرب وتركيا ووطّنها الاحتلال العثماني في بلاد الشام والعراق ومصر؟ هل هو متعبّد فقط، أم سامع متذوّق للموسيقى والسفر عبر التاريخ وتطوّرات النغمات وطبقاتها وتلاقحها الحضاري؟ أم أنه جيل شاب غربي وعربي يحاول اكتشاف أنواع أصيلة من الموسيقى الشرقية التي تهذّب السلوك والأذن والذوق الفني وتسافر في النفس البشرية لترقيتها وربما تطهيرها من التلوّث السمعي البصري المادي؟ هل هو جمهور كبير السنّ يعيش بين عالم دنيوي لم يعد يشبهه، وبين حنين الى ماضٍ كانت تصدح فيه الموشحات والأدوار والقدود الحلبية في الأعراس والحفلات العامة الرسمية والخاصة وعلى موجات الإذاعات، بأصوات شيوخ الطرب الرخيمة الجهورة؟ هل هو جمهور لا يؤمن بالنصوص الدينية وتطرّف مذاهبها ورجال الدين واجتهاداتهم وفقههم الذي يقسّم العباد، باحثاً عن وسيلة للتأمل وللتحرّر من قيود الحياة وضغوطاتها وقلقها وإيجاد علاج روحي يوصله بعالم التأمل والجمال والرقي والتسامح والبساطة؟

ليلة مقمرة من العمر
كل هذه الأسئلة أجابت عليها فرقة الكندي الصوفية التي أحيت ليلة روحانية من العمر في مهرجانات بعلبك ليل الأحد – الاثنين، استسلم فيها الجمهور من فئات عمرية مختلفة وثقافات متنوعة عربية وغربية، لنغمات الناي والقانون والعود والرقّ وأصوات المنشدين الرئيسيين عمر سرميني وحامد داوود ورفاقهما من الجامع الأموي الكبير في دمشق.

يا زمان الوصل..في حلب
على أدراج معبد باخوس إله الخمر عند الإغريق القدماء وملهم طقوس الابتهاج والنشوة، استهلّت الفرقة التي أسّسها عالم الموسيقى وعازف القانون الفرنسي جوليان جلال الدين فايس (2015-1953)، السهرة الصوفية باميتاز بموشّحات أندلسية وقدود حلبية وقصائد حب وعشق، مثل "يا بهجة الروح" لسيد درويش و"جاء الحبيب الذي أهواه" لبطرس بن إبراهيم كرامة و"يامال الشام" و"مالك يا حلوة مالك" و"قالوا تسلّى عن المحبوب"، أداها المنشد الحلبي السبعيني عمر سرميني الذي هو حلّ ضيفاً على الفرقة في بعلبك.



وقد غازل السرميني أهالي بعلبك واللبنانيين وأهل الشام وحلب، فيما أداه من موشحات حاول تغيير جملها لإضفاء شيئاً من الخصوصية على السهرة. كما أدّى أغنية "يا قلبي لا تتعب قلبك" للأخوين الرحباني التي غنّتها فيروز على أدراج بعلبك، تحية لمدينة الشمس التي كتبت بها قصائد وأغاني كبار الشعراء.

أذان للتسامح
هذا كان تمهيداً فقط لجمال ورقي ما قدّمته الفرقة من أناشيد دينية مولوية وتسابيح. فما أن اعتلى المنشد الدمشقي حامد داود المسرح بزيّه الشامي، ورفع أذان الصلاة بصوته الرخيم القوي، كما يُرفع في جامع بني أميّة الكبير في دمشق، حتى دخل المستمعون في رحلة تواصل روحانية جماعية مع الفرقة نقلتهم الى فضاء الطرب والرقيّ والحب والتطهّر... صوت داود الرخيم الذي يتمتّع بطبقات صوتية عالية ويؤدي أنواع غناء وأناشيد متنوعة صعبة بحرفية عالية والأهم بروح صوفية خارج الزمان والمكان.

فهو كما صرّح في حديث مع "المدن"، رافق الفرقة منذ كان طفلاً يسافر مع أبيه سليمان داود أحد منشدي الفرقة من بلد الى آخر كانت باكورتها في معهد العالم العربي في باريس في العام 1996، فأدرك الإنشاد بالممارسة والميراث وخاض التجارب الفردية السلوكية بشكل ملموس كما تتطلب الموسيقى الصوفية التي غيّرت رؤيته للوجود". الأمر الذي خوّله أن يكون اليوم أحد أبرز المنشدين الصوفيين في سوريا والعالم العربي، وهو من الجيل الثاني للفرقة التي تأسست في 1983 في سوريا.

صوت داود المتعبّد وما أداه من أناشيد وموشحات وقصائد وتسابيح وتواشيح دينية محض برفقة حلقات رقص الدراويش المولوية، كان بمثابة حلقة علاجية أو ما درج على تسميته اليوم بال "Healing" للأذن والذوق الموسيقي وللروح. أصاب بصوته النابع من القلب قلوب الجمهور من ثقافات وأديان مختلفة، فأطربهم وجعلهم يتمايلون يحلمون ويتقرّبون من ذواتهم، بكلماته الابتهالية وبأنغام موسيقى التخت الشرقي البديعة خصوصاً من بين أصابع عازفة القانون التونسية خديجة العفريت وعازف الناي السوري زياد قاضي أمين وعازف الرقّ أحد مؤسسي الفرقة المصري عادل شمس الدين.

تواصل وابتهال وعلاج 
ليس سهلاً تأدية الموسيقى الصوفية وليس سهلاً تعلّمها فهي بحسب الدراسات لا تُدرّس بل تمارس وتنبع من القلب، كما ليس سهلاً سماعها لأنها تعتمد على أهمية أن يكون السامع حاضراً للتواصل الروحاني مع الموسيقيين. فقد وجدت الموسيقى الصوفية في الأصل كوسيلة للوصول الى الناس وجذبهم الى بيوت الذكر وتقريب فكرة الخالق إليهم وخوضهم غمار التسامح في ما بينهم وعشق الرب. ومن هنا يمكننا اعتبار الأدعية وأذان الصلاة والتجويد القرآني والابتهال، أسمى الوسائل السمعية للتواصل وجمع الناس فيما بينهم على الكلمة الطيبة.

الأصالة هي الباقية
ماذا بقي اليوم من الفرقة بعد 40 سنة وماذا بقي من روح المؤسس جوليان فايس الذي أتت حفلة بعلبك كتحية لروحه، وترك من تسجيلات ومؤلفات تعتبر مراجع في الموسيقى العربية والصوفية الأصيلة؟ يقول حامد داود إن "جوليان فايس كان له الفضل في تجميع موسيقيين ومولوية (دراويش) من بلدان عدّة من سوريا وتونس والعراق وكازاخستان وإيران وتركيا ومصر، توفي القسم الأكبر منهم وبقي فقط عازف الإيقاع الفرنسي المصري عادل شمس الدين، وعازف الناي زياد قاضي أمين، وعازف العود السوري قدري دلال المقيم في الولايات المتحدة وشاركنا الحفلة اليوم، وحاتم الجمل شيخ المولوية من دمشق".

وأشار الى أن أهمية جوليان تكمن أيضاً في الأبحاث والدراسات التي أجراها على الأرض في العالم العربي وآسيا موطن الموسيقى الصوفية، وقد أنشأ الفرقة من أجل التثقيف الموسيقي والبحث عن أسرارها والتعريف بهذه الموسيقى التراثية، وسنبقى هكذا على هذا المنوال في تأدية الموسيقى العربية الشرقية كما هي والتي تميّزنا بأدائها". وماذا عن التجديد؟ يجيب داود: "الناس اليوم في خضم زحمة السرعة والزيف والذكاء الاصطناعي والحياة المهرولة نحو تطورات تكنولوجية أسرع من إمكانية البشر، بحاجة الى الأصالة التي نصرّ على الاستمرار في تقديمها خصوصاً الموشحات الأندلسية والقدود الحلبية والاناشيد الدينية والتراث الموسيقي".

منشدو الجيل الجديد؟
لكن هل ما زال هناك منشدون من الجيل الجديد في عصر الموسيقى الالكترونية والرقمية، نظراً لصعوبة تعلّم الإنشاد الديني الصوفي الذي يخضع كما سبق وذكرنا يعتمد على التجربة الفردية؟ يشرح داود: "ما زال هناك من يريد احتراف الإنشاد والموشحات خصوصاً ممن لديهم إرث عائلي، لكن للأسف العدد قليل، فالتحديات كثيرة، لأن الموسيقى الصوفية تحتاج الى التفرّغ والوقت والبطء والتكرار والبعد والإيمان بها، بعيداً من الإيقاع السريع لحياتنا المعاصرة وما يطلبه المشاهدون!".

فقد يكون الوقت اليوم يسبق الصوفيين وفنانيهم وحلقاتهم، لكنهم على قلّتهم يمكلون هم أنفسهم الوقت، أفليس الإنسان هو الوقت كما يقول الفلاسفة؟

ويعيدنا داود الى السؤال الأساسي وهو الجمهور. فيقول: "جمهورنا كبير من العرب والغربيين، وفي دمشق نحن نؤدي الموشحات والموسيقى التراثية والمولوية حوالى 3 مرات في الأسبوع في حفلات خاصة وعامة ولديها نطاق جماهيري واسع، لكننا نستلذ كثيراً عندما نحيي حفلات للجمهور غير العربي خصوصاً في أوروبا حيث نقرأ الدهشة والرهبة على وجوههم والحب في عيونهم وتذوّق موسيقانا والتواصل معنا بلفظ اسم الجلالة الله بشكل تكراري وإن لا يعرف معنى الكلمة، لأنهم يفتقدون الى الروحانيات ويطلبونها ويقدّرون ما نقدّمه ويتفاعلون معه".

ويلفت داود أن جمهورهم السوري بغالبيته الساحقة هو متعبّد، لكن خارجها هم متنوعين بين المتعبد والملحد والمتذوّق للموسيقى وهواة الصوفية فلغة الموسيقى عالمية".

ورغم كل التحديات التي مرّت بها الفرقة من حروب في المنطقة ووفاة غالبية مؤسّسيها والتمويل، يبدو داود متفائلاً باستمرارية الفرقة. "الناس اليوم تطلب الموسيقى الروحية الصوفية الشرقية، في ظل ضغوطات عالم الرقمية والسرعة، ونحن لا نهدأ لدينا جولات عالمية اليوم في العالم العربي والغربي وجمهور ينتظرنا".  

هيام الروح
فرقة "الكندي" التي "تواجه تحديات إيقاع الحياة السريعة وتغيّر أنماط العيش" كما كان على أيام جلال الدين الرومي وبعده على أيام شيوخ الطرب العرب مثل سيد درويش والشيخ ابو العلا محمد، والشيخ زكريا احمد والشيخ سلامة حجازي، جمعت الناس حول الموسيقى ودعتهم الى التقرّب من الله والتواصل معه من خلال النغم والحب بعيداً من كل القيود والنصوص الدينية والفقه والمذاهب والاجتهادات. فأتى التواصل في ليلة مهرجانات بعلبك المقمرة، روحانياً بسيطا مرهفاً عفوياً حميماً، في رحلة تطهير الذات من القلق وكأن الروح تهيم في سماء بعلبك متحرّرة من الجسد ومن الويلات التي عاشها اللبنانيون ويعيشونها ومن الجروح والنكبات... لتبقى الروح هناك قرب الآلهة الرومانية تتنقّل بين الأزمنة والنجوم.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها