السبت 2023/05/20

آخر تحديث: 13:08 (بيروت)

إعادة افتتاح متحف سرسق...راوي سيرة وطن تتقاذفه أمواج الزمن

السبت 2023/05/20
increase حجم الخط decrease
كل شيء حولنا مرتبط بالحرب، وما يندرج تحتها من انكسارات سياسية، واغتيالات، وغزوات واحتلالات: ذكرياتنا. طفولتنا. ألبومات الصور التي استطعنا إنقاذها من النيران. محطات كلامنا. بيوتنا المتنقّلة التي تتغيّر بحسب تغيّر خطوط التماس أو مواعيد إطلاق النار. أصواتنا الداخلية. قلقنا. دقات القلب السريعة. وجوه أمهاتنا. خوفنا على أولادنا. الرهاب من الفقد. الرعب من المجهول... لكن صورنا مليئة بالحب، بالكؤوس والأنخاب، بالرقص والسهرات الماجنة والموائد الملوّنة، بالتظاهرات، بدروب "النضال" التي أحبطت جيل السوشيل ميديا كما أحبطت جيل تأسيس الجامعة اللبنانية وشباب الشارلستون وكراسات كارل ماركس وهواة سيجارة "جيتان" الفرنسية...

تلك الدروب وتحوّلاتها الجيوسياسية، كانت واضحة وزهرية لدى جماعات الخميني وبشير الجميل وكميل شمعون ونبيه برّي وإيلي حبيقة وميشال عون وسمير جعجع وحسن نصرالله.. وضوح جشع "عمّي بو مسعود" (أغنية الياس الرحباني وطفولتنا المشوّهة) وحبّه لابتلاع كل شيء من البيض والحليب الى أموال المودعين واستقلال القضاء وحرية التعبير وصولاً الى علك السلطات كلها ومؤسسات الدولة ومعها القيم والأخلاق، وبصقها في وجوهنا شظايا وذرات من نترات الأمونيوم لنَموت دفعة واحدة!

"كلّن يعني كلّن" الذين بلعوا جبهات النضال والقتال والاقتتال، وصبغوها بألوان أعلامهم الباهتة، حفروا قبورنا ونهبوا أموالنا وأفلسوا بلدنا، بأسلحتهم ومليشياتهم وكل من شدّ على مشدّهم... حتى بلغ السيل الزبى. لكننا لم نمُت. قُتل الكثير منا بدم بارد، وبقي أكثر بكثير، ليس للصلاة على القتلى والمفقودين، بل لمحاسبة القتَلة وفتح أبواب جديدة للنضال الشعبي لاسترجاع المدينة من أفواه الحيتان.

على هذا المنوال من الانفصام والتناقض الحاد، وشحذ الأمل من تحت الرماد، وعدم الاستسلام وتضميد الجروح وترميم الأرواح المكسورة، أتت إنتاجاتنا الأدبية والفنيّة والعمرانية وهيئة "مدينتنا" الواقفة على قَدَم واحدة. لا هي قادرة على المسير والتقدّم خطوة، ولا هي قادرة على الوقوف طويلاً عارية متصدّعة على أبواب تمزّقات الزمن في انتظار المخلّص.

حياتنا هذه هي مرآة قصصنا، ألواننا، سردياتنا وأحلامنا التي قذفها انفجار مرفأ بيروت أمامنا وتساقطت نتفاً من الزجاج والندبات والأرواح والغصات والهزائم. فمنذ وقعت المدينة على رؤوسنا مساء الرابع من آب المشؤوم، ونحن نُنخَر بسيوف وصلبان "كلن يعني كلن" الذين عطّلوا القضاء كي لا تُعلَن الحقيقة التي نعرفها جميعاً.

نبت العشب هناك على أرصفة المرفأ، نما ويبس ثم نبت من جديد عشرات المرات وتكاثر، ولم يُحقَّق مع القتلة. وصل القمح الذي فُجِّر هو أيضاً بالصوامع وما فيها من أسرار وفساد وتاريخ، الى قبرص واليونان لاجئاً سابحاً هارباً من طحنه ودفنه في المياه المالحة التي لا يمكنه العيش فيها، ولم تُلقِ السلطات القبض على القتَلة. عادت البواخر الى الميناء، وصعد الأموات الى السماء، وتضامن معنا العالم كلّه. تتنافس دول وشركات عابرة للقارات لإعادة إعمار المرفأ، ونحن ما زلنا في انتظار "غودو" اللبناني. زمّت الندوب على أجسادنا، تكاثر الشَّعر من حولها، وتبدّل لونها، لكن الدولة اللبنانية فضّلت قطع إصبعها كي لا تدلّ على القتلة.

وحدهم أهالي الضحايا ترتفع أصواتهم أمام قصر العدل و"لا تندهي ما في حدا"... وحدنا نصارع نحن الناجين ومدينتنا العقيمة، أمواج الفساد والانهيارات، لكن لا ضوء في الأفق.

العتمة تُغلق على صدورنا. بعضنا يمشي بأجساد منهكة وعيون شاردة في انتظار النيزك ليأخذنا كلنا الى غير رجعة، وبعضنا يبدّد الانكسارات المتتالية بكثير من الخمور و"شفطات" الكَيف وهزّ الخصر والعضّ على الجرح آملاً أن يستيقظ الشعب (ما عدا هو نفسه) يوماً من "غياهب الجب". فيما قلّة قليلة حاملة لواء المجابهة لتحرير القضاء واستقلاله والمطالبة باستكمال التحقيق انتصاراً لضحايا إنفجار المرفأ وكشف عمليات الاحتيال التاريخية بحق المودعين في المصارف اللبنانية... ينتظر البعض "غرندايزر" ليأتي من الفضاء ويتغلب على الغضب غير المسموح به والنجاة من الجبل المكلّل بالثلوج!

إنتصار برائحة الباستيل
قلّة قليلة بقيت هنا تعاند كل الظروف وتحارب الموت وتقول لا للقتلة وللفاسدين. قلّة قليلة نجت من ويلات الحروب والغزوات وانفجار 4 آب، وما زال لديها النَّفَس لتروي الحكاية وتُخبر الحقيقة التي لم تنصفها السلطة حتى الآن.

تماماً كمتحف سرسق الذي يعاد افتتاحه في 26 أيار الجاري، بعد ثلاث سنوات من الإقفال القسري جراء إنفجار المرفأ الذي تسبب بأضرار جسيمه في بنائه التراثي وأعماله الفنية ونظامه الكهروميكانيكي وأسقفه وكسواته الخشبية المشغولة يدوياً في دمشق في عشرينات القرن الماضي... بقي ليروي سيرتنا وسيرته وسيرة وطن. بقي لينتصر... رغم الآلام لكل من عمل فيه وشهد على تروما الانكسارت والدمار، ولكل من لديه مع المتحف علاقة متينة من فنانين وأكاديميين ونقّاد وصحافيين وكتّاب ومصوّرين وهواة للفن، ورغم تضرّر 55 عملاً فنياً بين منوتات ولوحات لرواد الفن التشيكيلي في لبنان مثل بول غيراغوسيان، وفي العالم مثل كيس فان دونغن الفنان الهولندي الفرنسي الشهير.

واجهة المدينة الملوّنة
وحدها واجهة المتحف التي أضيئت من جديد، بزجاجها الملوّن الفريد المشغول يدوياً بإشراف الفنانة مايا الحسيني، وبدعم من مؤسسة "سان غوبان" للبناء و"سان جوست" لصناعة الزجاج والديكور، تنتصر لنا في هذا الهول من العتمة. شمعة في عين القتَلة وتجار الأمونيوم وكل من يضع يده على التحقيق في جريمة انفجار المرفأ.

هذا الصرح الوطني الجامع الذي تأسّس كمؤسسة متحف سرسق في العام 1961، يتقاطع تاريخه وحكاياته ومجموعاته الفنية ومعارضه ومسيرته المتقطعة وترميمه، أكثر من مرّة، مع تاريخ لبنان الحديث والاستحقاقات الكبرى فيه والأجواء السياسية في البلاد، متحديّاً كل الظروف.

فقد نجا من الحرب الأهلية والاقتتال الداخلي أكثر من مرّة. صمد في وجه الأزمات والقنابل والسرقات ورصاص المليشيات والانفجارات. وكاد يصبح حطاماً أو خرابة مهملة لولا المِنَح المقدمة من "التحالف الدولي لحماية التراث في مناطق النزاع" (ALIPH) الذي خصّص 500 ألف دولار كمنحة إغاثة طارئة عبر مؤسسة "آفاق"، كما خصصت وزارة الثقافة الفرنسية المبلغ نفسه. وقدّمت الحكومة الإيطالية من خلال "الوكالة الإيطالية للتعاون التنموي" (AICS) منحة بمليون دولار عبر مبادرة "أونيسكو- لبيروت". هذا عدا التبرعات المالية والعينية من الأفراد وأصدقاء المتحف.

المبنى الأبيض شيّد في العام 1912 كبَيت سكَني لرجل الاعمال عاشق الفن، نقولا إبراهيم سرسق، على الطراز المعماري القوطي (طراز العمارة المحلية في مدينة البندقية)، ونفحة عثمانيّة ساد استخدامها في عمارة لبنان مطلع القرن العشرين. ووهَبَه صاحبه بعد موته لبيروت، وأوصى بأن يكون متحفاً مجانياً لكل اللبنانيين وعاشقي الفن. وقد صُنف العام 1999 من قبل مديرية الآثار، كمبنى تاريخي من الفئة "أ".

في العام 1970 رُمّم المبنى وتمت توسعته ليلائم وظيفته كمتحف وفضاء عام يستقبل المعارض الكبرى. وفي 2008 خضع المتحف لمشروع ترميم وتوسعة على مدى خمسة أعوام، وأعيد افتتاحه رسمياً في 2015.

موجات الزمن المتقطّع
من أبرز المعارض التي ستفتتح في 26 أيار، "موجات الزمن" الذي "يستطلع ثلاثة جداول زمنية في سرد تاريخي لمتحف سرسق، ولمعارِضه، وللأحداث الاجتماعية السياسية المحلية البارزة الموازية للإنتاج الفني في البلاد"، كما تشرح القيّمة عليه ومديرة متحف سرسق، كارينا الحلو. ويغوص الجدول الزمني المبدئي في كل انقطاع تاريخي، واجَهَه المتحف ويتقاطع مع العالم الثقافي.

يعتمد المعرض على المواد التوثيقية والمحفوظات الخاصة بمتحف سرسق وأعمال إعادة التأهيل المنصرمة. ويسلط الضوء على ست انقطاعات طوال 62 عاماً من وجوده: من الإقفال الأول بين 1952 و1961 الذي نتج عنه معركة قانونية لتحويل دارة نقولا إبراهيم سرسق إلى متحف، إلى الإقفال القسري الأخير بسبب انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020.



يتضمن المعرض أعمالاً لكل من الفنانين اللبنانيين بول غيراغوسيان، عارف الريّس، جان خليفة، سمير خدّاج، سامية عسيران، شفيق عبّود، سعيد عقل، أكرم زعتري، جيلبير الحاج، ونسرين خضر، ولور غريّب. وتعتبر الحلو أن هذه الأعمال هي "بمثابة شهادات حيّة وثناءات للمقاومة الثقافية التي قادها فنانون وعاملون في المجال الثقافي ورعاة الفن ومناصريه، لمواجهة كل التحدّيات التي مرّ بها لبنان مرّ السنين".

تدلّ الأعمال المختارة في الجدول الزمني، على أحداث مهمّة في حياة كل فنان، وتُمثّل كبسولات زمنية تعرض للممارسات الفنية المختلفة المتولّدة من العنف الذي شكّل سبعينات وثمانينات القرن الماضي، إضافة إلى الجدل: هل يتم تمثيل وجوهه القاسية أم لا؟ واختارت القيّمة مثلاً لوحتين من مجموعة "الخوف" لجان خليفة التي وثّق بها احتلال بيته واحتجازه من قبل المليشيات خلال الحرب الأهلية. كما تحضر التظاهرات والانتفاضات في "يوم الجامعة اللبنانية" العام 1968 في لوحة للفنان عارف الريس. وتنتهي الجولة مع لوحة للفنانة لور غريب التي شهدت موت المدينة بنيترات الأمونيوم وتطاير أجساد أهلها في إنفجار مرفأ بيروت في 2020، فجسّدت الهول الذي عاشته كما أبناء العاصمة بلوحة "آخ يا بيروت" بالأبيض والأسود.  

صالون الخريف: بناء المتن الفني الوطني
المتحف الذي يعتبر بحسب مديرته كارينا الحلو "من أوائل متاحف الفن الحديث والمعاصر في المنطقة العربية والوحيد والأول في لبنان"، ساهم عبر "صالون الخريف" (الذي نظّم للمرة الأولى في 1961 وكان يسلّط الضوء على الفن الجديد) أهم تظاهراته التشكيلية في المنطقة، في تشكيل الذائقة الفنية العامة في لبنان.

فهو خلَق مساحة للتلاقي وحواراً حول ماهية الفن التشكيلي وتجسيد الحروب وويلات العنف فيه. وأطلق نقاشاً حقيقياً حول هوية لبنان التشكيلية وتأثرها بالموجات الأوروبية، خصوصاً الفن الفرنسي. إضافة إلى معرض نتاشا غاسباريان وزياد قبلاوي "أنا جاهل".. هو العنوان نفسه لمقالة جدلية في "ماغازين" الفرانكوفونية العام 1964 لجلال خوري، حول "صالون الخريف"، وحمل احتجاجاً لاذعاً على تحيز المتحف النخبوي تجاه التجريد، توقّعاً واستباقاً للأزمات التي حصلت لاحقا حول هذه التظاهرة الفنية.

ويبحث "أنا جاهل" في أهمية "صالون الخريف" المستوحى من الموديل الفرنسي للمعارض في القرن التاسع عشر، وكيف كان له دور مرجعي في صياغة بناء المتن الفني الوطني في البلاد. ومن أبرز الفنانين اللبنانيين الذين عرضوا في الصالون في ستينات القرن العشرين: شفيق عبود وإيفيت أشقر وإيتل عدنان وميشال بصبوص وسلوى روضة شقير وبول غيراغوسيان وإيلي كنعان وعارف الريّس وعادل صغير، وغيرهم ممّن نرى أعمالهم في معرض "أنا جاهل".



تدفّق الفن... من أجل المستقبل
يذهب الجزء الثاني من المعارض مثل "إيجيكتا" أو تدفق (تجهيز سمعي بصري للفنان زاد ملتقى) و"رؤى بيروت" (فيديو ثلاثي الأبعاد وصور من مجموعة فؤاد دباس تنفيذ شركة Iconem لرقمنة المواقع التراثية المهددة) الى التأكيد أن للفن والإبداع طاقة إيجابية تتخطى الصعوبات. وتمنح هذه الطاقة البشر هامشاً كبيراً من التخييل والتفكير بمستقبل الفن نفسه ومستقبل المتاحف كي تصبح أكثر دينامية وخلاقة وتستمر في جذب الروّاد، وتبني علاقات جيّدة مع المحيط وتخلق ذكريات مع الأفراد وأصواتهم وأفعالهم في الردهات والواجهات والصالات والأعمال المعروضة. تحيلنا الى التفكير في مستقبل الفن في زمن العالم الافتراضي وزمن الذكاء الاصطناعي والرؤى التي نتصوّر فيها أماكننا وبيوتنا وحدائقنا العامة ومدننا التي لنا فيها حيوات وذكريات ونسجنا فيها علاقات، وكيفية توثيق وحفظ صور الأماكن التراثية والتاريخية واللوحات والآثار المهدّدة بالاختفاء جراء الحروب والنزاعات والكوارث الطبيعية.

فيما يبحث معرض "طريق الأرض" (تقييم ماري نور حشيمة) في استملاك الأراضي وملكيتها في لبنان والتحقق من الأنماط السائدة في الملكية الخاصة. و"يقترح المعرض الذي شارك فيه أعمال لأحمد غصين ومروة أرسانيوس وسابين سابا، إمكانيات لسبل إنعتاقية أو ربما منقذة تقودنا نحو إدراك متجدّد لبيئتنا"، بحسب نص القيّمة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها