الأحد 2023/07/23

آخر تحديث: 10:33 (بيروت)

"أوبنهايمر" كريستوفر نولان... فيلم يحلم بالأوسكار

الأحد 2023/07/23
increase حجم الخط decrease

منذ فيلمه "استهلال" Inception، ومن بعده، "بين النجوم" Interstellar، أخبرنا كريستوفر نولان عن شغفه بالعلوم الصعبة والمتاهات الوجودية. فيلمه الأخير، "أوبنهايمر"، يزاوج بين الأمرين في حكاية بطلها ليس سوى روبرت أوبنهايمر (1904-1967)، عالم الفيزياء ومدير مشروع مانهاتن، الذي كان إنجازه الأهم قصف هيروشيما وناغازاكي وإنهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945. أوبنهايمر هو الهوس الجديد للمخرج البريطاني، وله يكرّس أطول أفلامه وأكثرها كلاسيكية حتى الآن: قصة ساحقة، مخبّأة وراء إطار بصري مُغرٍ، عن صعود وسقوط "أبو القنبلة الذرية"، تعاني من الطول الخانق لساعاتها الثلاث.

الفيلم من كتابة وإخراج كريستوفر نولان، استناداً إلى كتاب السيرة الذاتية الحاصل على جائزة بوليتزر "بروميثيوس أميركي: انتصار ومأساة جي روبرت أوبنهايمر" (2005) من تأليف كاي بيرد ومارتن غاي شروين عن سيرة الفيزيائي الشهير. في رؤية نولان، أوبنهايمر "بروميثيوس أميركي"، نابغة من القرن العشرين المضطرب وبطل تراجيدي وضحية مؤامرات سياسية، تجرّأ أيضاً على سرقة النار من الآلهة لمنحها هديةً للبشرية. لكن البطل في هذه القصّة، قبل كل شيء، مُنظّر وعالِم. وبسبب هذا الشرط تحديداً، لن يفهم تماماً بعض عواقب سلوكه، أو لماذا لا يطبّق الآخرون على نتائجه واكتشافاته الدافع الفاضل نفسه الذي ألهمه. من هذه الوضعية المربكة، يقدّم نولان تفسيراً بسيطاً وساذجاً تقريباً لكيفية تسبّب اكتشاف علمي عظيم في أضرارٍ لا حصر لها عندما يقع فريسة للتلاعب السياسي والأيدي الخطأ.

في البداية، يعود نولان، كما فعل في "بين النجوم"، للتخمين والتكّهن حول حياة أوبنهايمر المبكرة وعالمه المفاهيمي في وقت تكوينه كعالمٍ، مستعيناً بتوضيحات تليق بفيلم وثائقي علمي. ولكن في قفزة واحدة مفاجئة (بعد 25 عاماً)، يصبح الفيلم بياناً سياسياً وشهادة كبرى ويحمل أجندة مماثلة لفيلم "جيه إف كي" لأوليفر ستون، الفيلم الذي تطرّق إلى خيوط وملابسات اغتيال الرئيس الأميركي الأسبق جون كينيدي وحمل تفاصيل حياته وأسراره السياسية والاجتماعية بقالبٍ فيه الكثير من التفسيرات والخيال. هنا، يفعلها نولان أيضاً، بخريطة موسّعة للمكائد والمؤامرات والشكوك والارتيابات والولاءات والخيانات في امتدادٍ تاريخي مثير يربط اللحظات الأخيرة من الحرب العالمية الثانية ببداية الحرب الباردة.

تظهر هذه الاستمرارية، كما الحال في لعبة مرايا، في الحلقتين المتوازيتين اللتين سجّلهما نولان كمفتاح في حياة أوبنهايمر: أولاً، قيادته مشروع مانهاتن، المختبر المعقّد والسرّي للغاية للخطّة التي بلغت ذروتها باسقاط القنبلة الذريّة على هيروشيما وناغازاكي، ثم (بالأبيض والأسود) معارضته اللاحقة في فترة ما بعد الحرب لسباق التسلّح النووي مع الاتحاد السوفيتي، ما جنى عليه غضب بعض الفصائل الحكومية والعسكرية الأميركية المهتاجة في خضم رعبها الهستيري من "الخطر الأحمر". في إحداهما، ثمة علاقة فاضلة مع قائد عسكري رفيع المستوى (مات ديمون، مقنع كالعادة) يعرف كيف يتعامل مع العلماء لأنه تدرّب في ذلك العالم. في الأخرى، يظهر الشرير العظيم للقصّة، الأدميرال شتراوس (روبرت داوني جونيور، في أداء ممتاز)، مصمّماً من خلال طموحه السياسي وغروره الشخصي لتدمير صورة أوبنهايمر بشكل منهجي.

من خلال كلتا الحلقتين، يوضّح لنا نولان، دون الكثير من التفاصيل الدقيقة، التوتّر بين استبصار أوبنهايمر العلمي ومشاعره بالذنب، لا سيما حول علاقته العاطفية مع الطبيبة الشيوعية جين تاتلوك (فلورنس بيو، ضائعة تماماً). هذه الحلقة، مثلها مثل بقية الأحداث، أُدمجت في القصّة عبر جلسات خطابية لا نهاية لها (وغالباً مُمّلة)، تدور في فصول دراسية ومكاتب عمومية وقاعات برلمانية، تحتلّها أسماء وألقاب من التاريخ الحقيقي الذي يتداخل ويتمازج ويختلط أكثر من مرة، كما في متاهة لا نهاية لها.

أفضل ما عند نولان يظهر فقط في بعض الأوقات. عندما يروي في الوقت الفعلي تقريباً الاختبار الأول للقنبلة الذرية بكثافة وتشويق حقيقيين وطاقة واقتصاد في الكلمات وقوة بصرية تذكّرنا ببعض اللحظات الرائعة من فيلمه الحربي السابق "دنكيرك". كل شيء آخر يأتي بمثابة عرضٌ شامل للمهارة والسُمعة التي اشتهر بها صانع الفيلم لقدرته ترجمة بلاغته وخطابه إلى صور ومرئيات باروكية. هذه المرة يخبّرنا أن اللحظة التاريخية الحاسمة من بطولة أوبنهايمر تستحق اهتمامنا. وأن الاختراع العظيم لبطله المضطرب، في الأيدي الخطأ، يمكن أن يغدو مدمّراً.

للقيام بذلك، يداوم على اللجوء خلال 180 دقيقة إلى التفسير نفسه، مذكوراً بعدّة طرق، ومصحوباً بتعليق موسيقي مُلحّ، يؤكد هذه الأقوال بشكل أكبر. فقط، في لحظة معيّنة، عندما يظهر غاري أولدمان بشكلٍ عابر (في دور هاري ترومان، الرئيس الـ33 للولايات المتحدة) ويلمّح بغموض إلى المدى الذي يمكن أن يذهب إليه هذا النوع من التهديد أمام وجه أوبنهايمر المذهول (التعبير الوحيد الذي يمكن لكيليان مورفي تجسيده لأنسنة شخصيته)؛ يبدو السؤال الكبير الذي يقترحه نولان مكشوفاً بكلّ قوته، من دون الحاجة للديالكتيك المطوَّل والمرهق المهيمن على كل شيء آخر في الفيلم.

بالطبع هذا فيلم مُنجز وفي بال صُنّاعه سباق جوائز أوسكار القادم، مثلما يأتي أيضاً في توقيت مطرَّز بالتوفيق، ليس فقط لأن هجوم روسيا على أوكرانيا أعاد إحياء المخاوف من اندلاع حرب نووية، كان يُعتقد أنها توقفت لفترة طويلة، وإنما أيضاً لأن صعود وفورة الذكاء الاصطناعي يقودان الآن أحلك التخيّلات. من ناحية أخرى، هذا أول عمل "جاد" لنولان منذ "دنكيرك" (2018)، الفيلم الوحيد الذي حصل بفضله على ترشيح لأوسكار أفضل فيلم، وهي علامة بحدّ ذاتها. "جدّية" يجب تقديرها، وتستحق الإبراز، بمصطلحات هوليوود، حيث تحرز الدراما الشخصية والشخصيات المتضاربة والسيناريوهات المعقدة عاطفياً وأخلاقياً (مثل الحرب) نقاطاً معتبرة لصالح الإنتاجات التي تحتويها وتعطيها أفضلية في موسم الجوائز. "أوبنهايمر" يلبّي كل من هذه المتطلبات، فهل يكون كريستوفر نولان نجم حفل جوائز أوسكار القادم في آذار/مارس 2024؟


(*) يُعرض حالياً في الصالات

(**) على الهامش ذكرت وكالة فرانس برس أنّ شبّاك التذاكر الأميركي يشهد خلال نهاية هذا الأسبوع تناقضاً لافتاً في صدارته، إذ إن أحد الفيلمين اللذين يُتوقع أن يحتلا قمة الترتيب يتناول دمية شهيرة، في حين يتمحور الآخر على قصة مخترع القنبلة الذرية.

فمنذ صباح الجمعة، أقبل مئات الآلاف من محبي السينما في أميركا الشمالية على دور السينما لمشاهدة "باربي" و"أوبنهايمر".
وأظهرت أرقام العروض الأولى في الولايات المتحدة وكندا أن إيرادات عطلة نهاية هذا الأسبوع ستكون من بين الأعلى التي يحققها القطاع هذه السنة.
فالفيلم الروائي عن الدمية الأشهر حصد إلى الآن أكثر من 22 مليون دولار، فيما بلغت عائدات قصة أول سلاح نووي 10,5 ملايين دولار، وفقاً لشركة "بوكس أوفيس برو".
ومن المحتمل أن تصل إيرادات "باربي" في نهاية الويك-إند إلى نحو 150 مليون دولار، فيكون تجاوز بذلك ما حققه الجزء الثاني من "أفاتار" في كانون الأول/ديسمبر الفائت.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها