الخميس 2023/06/29

آخر تحديث: 11:15 (بيروت)

حليم بركات يرحل في غربته الأخيرة

الخميس 2023/06/29
increase حجم الخط decrease
آخر مرة وصلتني أخبار الروائي وعالم الاجتماعي حليم بركات، كانت صورته في مأوى المسنين في الولايات المتحدة الاميركية، كانت الصورة قاسية وحزينة و"عابرة"، وإشارة إلى هشاشة الإنسان...
 
وقبل أيام رح حليم بركات في المنفى الأميركي، أو في غربته الأخيرة، فالروائي وصاحب "طائر الحوم" و"عودة الطائر إلى البحر"، المولود في العام 1936 في بلدة الكفرون التابعة لمحافظة طرطوس السورية، غربته الأولى هي رحيله القسري عن مسقط رأسه إلى بيروت، ومن أسبابها وفاة والده المبكرة. حينذاك رحلت والدته إلى بيروت بحثاً عن عمل، ولاعتقادها بإمكان تأمين الدراسة لحليم واخوته في مدارس لبنان. يقول بركات: "كانت والدتي امرأة أميّة، لكنها كانت تعي أن المنقذ لنا كثلاثة أطفال هو تحصيل العلم". واستأجرت مستودع الحطب. وحين تمكنت من "شراء حصيرة ومساند ينام عليها اولادها"، "التأم شمل العائلة في مطلع ايلول 1942"، بعدما كانت الأم سبقت الأبناء إلى بيروت...

بدأ حليم حياته الدراسية، بصورة مؤقتة، في مدرسة الكبوشية في شارع الحمرا. وسرعان ما انتقل إلى ميتم "الفرندز" في رأس المتن (جبل لبنان). ومن هناك هبط إلى رأس بيروت ليكمل دروس المرحلة الإعدادية في "انترناشنال كوليدج" (I.C) التابعة للجامعة الأميركية، في العام 1949. وفي الاعدادية نشر باكورة قصصه القصيرة في المجلة الطلابية "صدى النادي" التي أشرف على تحريرها الاديب فؤاد سليمان الملقب بـ"تموز"... وتأثر حليم بجبران خليل جبران وسعيد تقي الدين وبعض الأدبيات القومية السورية، يقول: "اسعدني جداً أنني تعرفت إلى سعيد تقي الدين الذي حبّب لي كتابة القصة، واكتشفت انسانيته التي تفيض طيبة وكرماً. فكان من القلائل الذين يجمعون في شخصهم بين الروعة في كتاباته الساخرة وسلوكه في الحياة العامة". ويؤكد، من جهة أخرى، أن منير بشور ـ أستاذ في الجامعة الاميركية ـ أو عادل الأميوني كما يحلو له تسميته، قرّبه من الحزب السوري القومي الاجتماعي بعدما أعطاه كتابي أنطون سعادة "المحاضرات العشر" و"نشوء الأمم"، لكنه تأثر بالكتاب الثالث "الصراع الفكري في الأدب السوري"...

غادر بركات بعدها إلى أميركا لمتابعة تحصيله الأكاديمي. وقد عاد إلى لبنان وانضمّ إلى هيئة التدريس في الجامعة الأميركية في بيروت كأستاذ في مادة علم الاجتماع. إلا أنه وجد نفسه من جديد في أميركا بسب عدم ترقيته في الجامعة الأميركية في بيروت، و"أظن أن سبب ذلك كان اهتمامي بالقضية الفلسطينية، حيث أجريت حينذاك أبحاثاً في مخيّمات اللاجئين في الأردن، وكتبت كتابي حول أزمة اللاجئين بعنوان: نهر بلا جسور. ومن قبيل الصدف أن دعتني جامعة هارفرد في أميركا إلى الانضمام إليها كأستاذ زائر. ومنذ ذلك الحين، وجدت نفسي منفياً في الولايات المتحدة"، يقول حليم بركات في حوار مع مجلة المستقبل العربي.

وهو درّس في جامعة "هارفرد" 1972-1973، ثم في جامعة "تكساس" 1975-1976. لينتقل أخيراً للعمل في جامعة "جورج تاون".

وبحسب ما دوّن في كتابه "المدينة الملونة"، فهو هاجر في صيف 1975، من بيروت على أمل أن يكون رحيله عنها مؤقتاً، وطال الغياب في واشنطن ربع قرن تخللته زيارات سنوية قصيرة متقطعة إلى بيروت التي تربطه بها "علاقة طقوسية بخيوط واهية لا مرئية". يضيف: "وجدت نفسي في المنفى لا أدري أهو نفي طوعي أم قسري، ويتابع في مدينته الملونة: "إنني أتوق إلى زيارة حلب أو دمشق لأنعم بما أظنه أقرب ما يكون إلى ثقافة عربية أصيلة لكثرة ما تعبت نفسي بعد كل هذا الغياب بما يسمى حضارة غربية حديثة"...

في بعض كلمات بركات اختصار لكثير من معاناة بيروت ومعاناته من أجلها، يقول: "عرفت جيداً أنّ بيروت ليست المدينة التي تنام باكراً مع العصافير، وأن ليلها أجمل ما تعدّ به سكانها وعشاقها في مختلف الفصول". ويضيف: "غير أني نسيت وأنا أتجوّل في وسط دمار ساحة البرج ما حفظت من تبجيل لبيروت حين استرجعنا تفاصيل حياتنا فيها، وحين واجهت الدمار العبثي إثر الحرب الأهلية الثانية انهارت داخل نفسي الأساطير التي حيكت حول لبنان فاقتنعت بأنه كلام كان يقوم على أسس واهية لم تصمد عندما عصفت به وببيروت رياح الأزمات العاتية". ويقول بركات بلسان نادر الكفروني، الاسم الاخر لحليم بركات، في "المدينة الملونة"، أنه حرص خلال الربع الأخير من القرن العشرين على العودة سنوياً الى بيروت "مما أتاح لي التأمل في الدمار الذي أصابها وسعيها لولادة جديدة من رمادها.. ووجدتني أيضاً من حيث لا أدري استعيد ماضيها في منتصف القرن وهو زمن فتوتي، فخضت أحاديث ممتعة ومثيرة مع نفسي والآخرين، وكثيراً ما تحولت هذه الأحاديث الى نقاشات حامية، مرة بعدما تجولت وسط الدمار.. أنت يا نادر الكفروني لا تعرف، هل دخلت بيروت من بوابة ألف ليلة وليلة أم دخلت حكايات ألف ليلة وليلة من بوابة بيروت.. وأهم من هذا هل أردت أن تسجّل سيرة شبابك أنت أم سيرتها هي..".

أسهم حليم بركات منذ ستينيات القرن الماضي في كتابة أبحاث ودراسات ومؤلفات لها موقعها في الحياة العلمية الاجتماعية ومجالات الإبداع الأدبي. يقول في أحد حوراته: "في المرحلة الأولى سبق أن نشرت سنة 1961 روايتي الثانية "ستة أيام" التي تصوّرت فيها وقوع حرب بين إسرائيل والعرب، ولتكثيفها قلت إنها تمّت في ستة أيام. وعندما قامت الحرب الحقيقية العام 1967 كتبت رواية أخرى بعنوان: "عودة الطائر إلى البحر" التي تروي الحقائق التي حصلت في تلك الحرب. وكُثُر هم النقاد الذين اعتبروا ستة أيام نوعاً من النبوءة، لكني رفضت مثل هذا التوصيف، وفضلّت تعبير: الوعي بالواقع العربي الرزين والهشّ تجاه أعدائه". يضيف: "في روايتي "ستة أيام" ينشغل بطلها سهيل بقضايا مدينته "دير البحر" التي ترمز إلى فلسطين. ومشكلته كانت أنه كان جزءاً من حركة المقاومة، وإذا عدّت إلى روايتي "عودة الطائر إلى البحر" تجد أن بطلها أيضاً يودّ أن ينخرط في بلاده، وأن يصبح هو وبلاده شيئاً واحداً. وما ينطبق على الروايتين المذكورتين ينطبق بنسبة أو بأخرى على روايتيّ "الرحيل بين السهم والوتر" و"إنانة والنهر"، لأنهما عالجتا قضايا إنسانية يرتبط بها إنساننا".

على أن شهرة بركات كعالم اجتماع فاقت سمعته كروائي وكاتب قصة قصيرة. ويعود الفضل بذلك، بالدرجة الأولى الى كتابه "المجتمع العربي المعاصر" (1984) الذي استغرق إنجازه نحو ثلاثة عقود.

ومن أهم رواياته: "القمم الخضراء 1956، الصمت والمطر 1958، ستة أيام 1961، عودة الطائر إلى البحر 1969، الرحيل بين السهم والوتر 1979، طائر الحوم 1988، إنانة والنهر 1995، والمدينة الملونة 2006". ومن كتبه التي تضمنت دراساته: "المجتمع العربي المعاصر 1984، حرب الخليج 1992، المجتمع العربي في القرن العشرين 1999، الهوية أزمة الحداثة والوعي التقليدي 2004، والاغتراب في الثقافة العربية 2006".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها