الثلاثاء 2023/06/13

آخر تحديث: 12:31 (بيروت)

"تشريح سقوط" الفائز بسعفة "كانّ"..مذنبون وأبرياء في قفص الزوجية

الثلاثاء 2023/06/13
"تشريح سقوط" الفائز بسعفة "كانّ"..مذنبون وأبرياء في قفص الزوجية
تتعمّق هذه الدراما القضائية في تعقيدات الحياة الزوجية عبر استقصاء وفاة غامضة لزوج البطلة
increase حجم الخط decrease
فاز فيلم "تشريح سقوط"، للمخرجة الفرنسية جوستين ترييه، بجائزة السعفة الذهبية في الدورة الأخيرة من مهرجان "كانّ" السينمائي (16 – 27 أيار/مايو). لكن قرار تتويجه قسَّم آراء النقّاد، لماذا؟

 

هناك فيلمان يتنافسان داخل "تشريح سقوط". أحدهما أقرب إلى دراما المَحاكم ويحاول توضيح ما إذا كان السقوط - الذي يشير إليه العنوان - انتحاراً، أم نتاج حادث منزلي عَرضي، أم جريمة صريحة. الآخر أشبه بـ"محاكمة" فعلية لمؤسسة الزواج، وما يولّده العيش المشترك والشخصيات والمسارات المختلفة لكلّ من طرفي معادلة الزواج. والحقيقة أن الفيلم الأول ليس ممتعاً جداً. بينما الثاني أكثر استفزازاً وتأثيراً، لكنه ربما يأتي متأخراً قليلاً في هذا العمل الممتد لساعتين ونصف الساعة.

يتعامل "تشريح سقوط" مع العديد من الموضوعات المزعجة والقوية، لكنه يفعل ذلك بطريقة موسَّعة إلى حد ما، ومسرحية، وأحياناً حتى استطرادية؛ مثل قصّة لاحقة (حيث تُكشَف حقائق وأسرار هذه الأسرة عبر المحاكمة والموارد الدرامية المعتادة في هذه المواقف) أكثر منها شيئاً يُختبر ويُعاش في الوقت الحاضر. وهذا الافتقار إلى الدقّة والمعايشة يحدّ من القوة العاطفية لفيلمٍ لا يُحسّ فيه بمعظم الأشياء، بل إنها غالباً ما تُقال، وبصوت عالٍ أحياناً.

يبدأ كل شيء عندما تضطر ساندرا (ساندرا هولر)، وهي روائية ألمانية مشهورة مقيمة في غرونوبل بفرنسا، إلى مقاطعة مقابلة صحافية تجريها في شاليهها الجبلي، لأن زوجها (الكاتب أيضاً، لكنه أقل نجاحاً)، صامويل (صامويل ثيس)، المتواجد في العِلّية، رفع صوت الموسيقى فجأة. تغادر الصحافية، وبعد فترة وجيزة يذهب ابنها الصغير دانيال (ميلو ماتشادو غرانر)، فاقد البصر عملياً، في نزهة مع كلبه المحبوب الذكي، سنوب، والذي يعدّ شخصية محورية أخرى في الفيلم. عندما عاد الصبي لاحظَ (أو بالأحرى انتبه بعد ملاحظة كلبه) أن صموئيل ملقى على الأرض، ملطّخ بالدماء، وربما فارق الحياة. ينادي الصبي والدته، التي تستيقظ على ما يبدو من غفوة، وتنزل إلى الطابق السفلي لتُفاجأ بالخبر الرهيب. هل فوجئت، حقاً؟

في هذا التساؤل المُعلَّق يكمن الفيلم تقريباً، وكما يشير العنوان بمعناه الأكثر حرفية، يُصرف الوقت في تشريح هذا السقوط وأسبابه وملابساته. تحقّق الشرطة وهي غير مقتنعة بأن سقوط صامويل من ارتفاع أقل من ثلاثة طوابق فوق الثلج أحدث ثقباً في جمجمته ووفاته لاحقاً. كل شيء يشير إلى أنه اصطدم بشيء أثناء سقوطه، لكن هناك نقصاً في البيانات والأدلة لتأكيد ذلك. وبسبب هذه الشكوك، تعتقل الشرطة زوجته التي تجد نفسها مُتهمة بقتل زوجها، وتُقدّم للمحاكمة.


هناك، تبدأ سلسلة من المواجهات الكلامية بين محاميّ الدفاع والمدعّين العامّين والقضاة، يقاطع بعضهم بعضاً كما في المسرحيات. يظهر دليلان محتملان. أحدهما تسجيل صوتي سجّله صامويل لمشاجرة زوجية عنيفة حدثت قبل وفاته بوقتٍ قصير. والآخر هو شهادة الابن، الشاهد الوحيد المباشر أو غير المباشر على السنوات الأخيرة من تاريخ أسرته، بما في ذلك الحادث الصادم الذي أفقده أغلب بصره. وضع الصغير دانيال، مُعقّد، يكاد يكون أقرب إلى اختيار من يحبّ أكثر، أمّه أم أباه.

بعد الحادث وبداية التحقيق نفسه (هناك العديد من النقاط المشتركة للقضية مع حبكة المسلسل الأميركي القصير "الدرج" The Staircase (2022) من تأليف أنتونيو كامبوس)، ستدلي ساندرا بشهادتها أمام المحامين ومن هناك إلى المحكمة (وهناك سنجد تشابهات أخرى للفيلم مع دراما محكمة فرنسية أخرى من العام الماضي، "سانت أومير" للمخرجة أليس ديوب). تضيف المخرجة طبقات ونطاقات وتأثيرات جديدة. اللحظة الملحمية، إذا صحّ التعبير، هي تلك التي ستجعل "تشريح سقوط" يأخذ منعطفاً حاداً، هي لحظة الاستماع لتلك التسجيلات الزوجية. ورغم إنها لا تثبت شيئاً من حيث الأدلّة العدلية الملموسة، لكنها تبدو (أو هكذا تقدّمها المخرجة) سجلاً دامغاً على انحلال الرباط الوثيق للزوجين، بما يضاهي أحد أشهر النماذج السينمائية في هذا الصدد، فيلم "مشاهد من زواج" (1974، إنغمار برغمان). هناك، يخبر ساندرا وصامويل بعضهما البعض بكل شيء، ويلقيان حفنة من الصراعات "والتروما" الحادّة والكبيرة، بما يكفي لينشغل بها طاقم معالجين نفسيين لسنوات.

هل هناك مذنبون وأبرياء في مثل هذه الحالات؟ أم تدرُّجات مختلفة على مقياس الاعتماد المتبادل؟ هنا، في الفيلم، ثمة سقوط حرفي (يفضي إلى وفاة الزوج) وآخر مجازي (يفضي لتفكّك الزواج)، وقد يكون هناك مسؤولٌ عن أحد السقوطين، لكن ليس الآخر. إلا أن الإثنين متورّطان في النهاية. وجوستين ترييه تعرف هذا جيداً. وكذلك دانيال، الابن الذي يبدو كأنه يملك زرّاً للضغط على القنبلة الحاسمة وإقرار المسؤول عن الجريمة المحتملة. يعمل الفيلم على إثارة شكوك (لدى الشخصيات والمتفرجين) ويقترح معضلات أخلاقية ومعنوية مُقلقة، يعزّزها الأداء الجيد لهولر (التي تصدّت لبطولة فيلم آخر في "كانّ"، هو "منطقة الاهتمام")، وممثلين ثانويين مختلفين؛ من الصغيرماتشادو غرانر إلى سوان آرلو، في دور صديقٍ قديم لساندرا سيمثّلها كمحامي دفاع. أداءات تليق بفيلمٍ مرير ومتطلّب ومزعج، ينطلق من أزمة عائلية محدودة النطاق ليبسط أصداءه على أوقات الاضطرابات الاجتماعية التي تعيشها أوروبا في الوقت الراهن.

في النهاية، تُلامس هذه الدراما القضائية عَصَباً مهمّاً (في مسألة الزواج وفكرة الأسرة)، لكنها تفعل ذلك بأسلوب مُرهِق نسبياً وبطريقة مسهبة أكثر من اللازم. وبعد ساعتين ونصف الساعة من الألعاب النارية اللفظية بين الزوج والزوجة والمحامين وحتى الصحافة – التي تدخل على الخطّ وتعطي رأيها، بحسب توجّهاتها الأيديولوجية - يفهم المرء لماذا يحدّد المعالجون النفسيون واستشاريو العلاقات الزوجية مدة جلساتهم بساعةٍ واحدة فقط لكل جلسة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها