السبت 2023/06/10

آخر تحديث: 14:17 (بيروت)

رحيل آلان تورين... السوسيولوجي الذي عرّفنا ما الديموقراطية

السبت 2023/06/10
رحيل آلان تورين... السوسيولوجي الذي عرّفنا ما الديموقراطية
كان لزاماً على صاحب "نهاية المجتمعات" أنْ يُعلن نهاية الاجتماعي (فرانس برس)
increase حجم الخط decrease
عن 97 عاماً، رحل آلان تورين في باريس، لتفقد الساحة الفكرية واحداً من أبرز علماء الاجتماع في أيامنا هذه، وهو الذي وُصف بالمفكر اليساري لكنه حظي أيضاً بتقدير يمينيين... ونعاه صديقه إدغار موران قائلاً: أنا حزين على آلان تورين، رفيق عمر 70 عامًا، عالم اجتماع عظيم ومتبصر خبير بالحركات الاجتماعية، أدخل الذاتية البشرية في علم تجاهلها. كان عقلاً نبيلاً ومخلصاً وعظيماً، وفخراً للفكر الفرنسي.

ويمثل آلان تورين امتداداً نوعياً للفلاسفة، وعلماء الاجتماع الذين عملوا على القيام بنقد جينيالوجي للحداثة الغربية عامة، وشكل مرجعية للأجيال في كتاب "ما هي الديموقراطية" (ترجمة الراحل حسن قبيسي)، فهو يعتبر أن "الديموقراطية، لا يقتصر تعريفها على مجموعة من الضمانات القانونية فقط أو على سيادة الأغلبية، بل، هي قبل كل شيء احترام التطلعات الفردية والجماعية". وربط تورين بين التقدّم الاجتماعي والثقافة الديموقراطية والحداثة السياسية؛ ربط تجادل، لا ربط استضافة، فالدعوة عنده إلى إرساء ثقافة الديموقراطية وحقوق الإنسان والتنمية الشاملة، شأن واحد لا يقبل التجزئة.

كان يحذر من أن الديموقراطية سهلة الإنعطاب، خصوصاً عندما يشوبها خلل جذري، نتيجة حضور اللاتسامح الديني أو الطائفي أو القومي، لذلك، فالديموقراطية من وجهة نظره لا تتأسس على القوانين الصارمة فقط، ولا على التعاقدات  التوافقية، بل يجب إرساء دعائمها ببناء ثقافة ديموقراطية سياسية، تؤمن بالتعددية السياسية. كما دعا لإعادة تعريف الديموقراطية من حيث التدخل النشط، بدلاً من مجرد مؤسسة سلبية. للحفاظ على قوة وفعالية دولنا ومجتمعاتنا، يجب علينا أن نخطو خطوات واضحة - وقريباً - بعيدًا من سياسة الخصوصية ونحو تكامل وتحقيق التوازن بين النساء والأقليات والمهاجرين والأغنياء والفقراء. إذا أصبحت دولنا ضعيفة للغاية، وحيطة للغاية بسبب سياسات الهويات المتنافسة وجماعات المصالح، فسنجد أنفسنا يومًا بلا وسائل لحماية القيم ذاتها التي نعتقد أننا نحارب من أجل الحفاظ عليها.

وأفكار كتاب "ما هي الديموقراطية" لتورين تتسم بالواقعية، والبعد عن الرؤى الميتافيزيقية المجردة، فكثرة الشواهد التاريخية، دليل على ارتباط تورين بالعالم المعيش، وأنه يحلل الظواهر السياسية من داخل المجتمع، هدفه تأسيس مقاربة فلسفة سياسية إجتماعية جديدة، لا مجال فيها للرؤية أحادية الجانب، تاركاً للقارئ مساحة واسعة للتفكير وإعمال العقل لتحليل الديموقراطية...

لم يكن انتماء آلان تورين للسوسيولوجيا نتاج الصدفة كما يخيل للبعض؛ فانتماؤه كان من أجل المشاركة في تغيير العالم، وشرطاً لقيام السوسيولوجيا كعِلم ملتزم. ويعتبر تورين أن الموضوع الرئيسي لعلم الاجتماع هو دراسة التصرفات الاجتماعية التي ترتبط بالتاريخية، أي بعلاقات وصراعات الطبقات، وهي ما ندعوه "الحركات الاجتماعية".

وتورين الذي انشغل في البدايات، بعوالم العمّال والكادحين في المجتمع الصناعي الذي كانت تعيشه فرنسا - وأوروبا بشكل عام - في خمسينيات وستّينيات القرن الماضي، سينشغل في كتابه "نهاية المجتمعات" بنهاية شكلٍ من أشكال الاجتماع البشري ــ وخصوصاً في الغرب ــ مع تراجع دور العائلة والمدرسة والمدينة وأدوات الإنتاج الكلاسيكية، ما فتح الباب على "مرحلة ما بعد اجتماعية"، بحسب تعبيره، تتميّز بمطالب أخلاقية أو بمطالب متعلّقة بالحقوق القانونية والإنسانية (مثل النسوية، وحقوق الأقلّيات). وتندرج السوسيولوجيا التي يصوغها ضمن فكر الحداثة. وبالنسبة إلى تورين، حان الوقت لكي نتخلى عن فكرة المجتمع، الموضوع الكلاسيكي للسوسيولوجيا، مادامت فقدت واقعيتها من جهة أولى، وقدرتها التحليلية من جهة ثانية، أو لنقل فقدت تاريخانيتها.

من هنا كان لزاماً على صاحب "نهاية المجتمعات"، أنْ يُعلن نهاية الاجتماعي. إن هذا الموقف من المجتمع ليس جديداً عنده، بل يعود إلى محاولاته السوسيولوجية الأولى، سواء تعلق الأمر بتنظيره للفعل الاجتماعي أو بدراسته لحركة أيار1968، إذ عَرَّفَها بقُدرتها على الفعل في ذاتها وصوب المجتمع عينه، وليس العكس. فهو لم يفسر الحركات الاجتماعية أبداً، خصوصاً الجديدة منها، في المجتمع بقدر ما فسر المجتمع بقدرته على الفعل في ذاته، سواء من خلال الشغل أو من خلال الحركات الاجتماعية. ذلك المجتمع الصناعي الحديث الذي أعلن تحلله وانفجاره في العلاقات الاجتماعية، ومنها العلاقة بين الفاعلين الاجتماعيين، لا سيما في المجتمع ما بعد الصناعي، أو ما يسميه هو بالمجتمع المُبَرْمَج، وما تطلبه ذلك من عودة لفكرة الفاعل الاجتماعي التي طالما حَجبتها وكَبتتها السوسيولوجيا المُهيمِنة.

سيرة
ولد آلان تورين في 3 أب 1925 في هيرمانفيل سور مير (كالفادوس)، وسط عائلة برجوازية ومحافظة إلى حد ما، ونشأ محاطاً بالكتب. حصل على شهادة التبريز من المدرسة العليا للأساتذة العام 1950، والتحق بالمركز الوطني للدراسات الاجتماعية، ليعمل فيه باحثاً حتى العام 1958. حصل على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع تحت إشراف جورج فريدمان، العام 1955، وأسس مجلة Sociologie du travail (سوسيولوجيا العمل) العام 1959 بمعية مجموعة من علماء الاجتماع الفرنسيين، مثل ميشيل كروزيي، كما أنجز العديد من الدراسات والأبحاث حول الحركات الاجتماعية والوعي العمالي.

وأنجز تورين مجموعة وفيرة من الأعمال وصف فيها ديناميات التغيير الاجتماعي خلال مرحلة "الثلاثين المجيدة" (1945 - 1975) وبعدها. وخلال عمله البحثي المرتبط بهذه المسألة، ركز بداية على العمال، فيما تمحورت نظريته على العاملين في شركة "رينو" لتصنيع السيارات. هو أيضاً شخصية بارزة في المشهد الفكري الفرنسي والعالمي من خلال أعماله الفكرية والنقدية، منذ تحقيقاته الميدانية الأولى في مصانع "رينو" إلى نصوصه الأخيرة حول تحولات الرأسمالية "المضاربة"، مروراً بحركة "السترات الصفر". 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها