الأحد 2023/05/07

آخر تحديث: 07:04 (بيروت)

إيلي شويري: الراحل «المتنزّه على حفاف العمر»…

الأحد 2023/05/07
increase حجم الخط decrease
إنّ بعض الكلام على الذين رحلوا هو أشبه بالكلام على الذات. فرحيلهم يأخذ معه جزءاً من ذكرياتنا. ويأخذ معه أيضاً شيئاً من زمن نحن في أمسّ الحاجة إليه كي نبقى على قيد الحياة بعدما تحوّل كثير الموسيقى إلى صخب، وكثير الشعر تحوّل إلى لغو. 

يقترن اسم إيلي شويري في ذكرياتنا بالناس الورقيّين الذين صنعهم الأخوان رحبانيّ كي يخلقوا لنا عالماً نحجّ إليه كلّما ضجرنا من الضجر الذي يهيمن على يوميّاتنا. «قصقص ورق ساويهن ناس»، غنّى الشويريّ مع فيروز بين بيكاديللي بيروت ومعرض دمشق ومسارح الولايات المتّحدة الأميركيّة. وعلى هذه المسارح شرب نخب الحرامي الذي يلعب لعبة الحبّ كي يسكر، فتنتقم منه جرّة العرق بتعليقه في شباك الحبّ. هذا الرجل الورقيّ هو أيضاً «هبّ الريح» السكران طوال الوقت، والذي يعتقد أنّه بالكذب يستطيع أن يبيع ابنته هالة للسعادة (هالة والملك). وهو «عيد» الذي يلتقط بمكره الفطريّ الكذبة التي اخترعها المختار فيحوّلها، مع صديقه «فضلو»، من خبريّة تستدرج خيالات البطولة إلى قصّة الشرّ الذي يزرع الصبّير والعلّيق والمساكب السوداء (بيّاع الخواتم). إيلي شويري الورقيّ هو كلّ هذا. وهو أكثر من هذا بكثير، لأنّ الأوراق التي تتحوّل إلى ناس بفعل مقصّ الأخوين عاصي ومنصور ما كانت تكاد تأخذ شكلاً حتّى يعيدان ترتيبها ثانيةً، فتتشكّل من جديد وتتحوّل إلى حكاية أخرى. 

وكان الصوت العذب يرافق كلّ هذا. لا شكّ في أنّ كوكبة المواهب الغنائيّة التي أحاطت بالأخوين رحبانيّ وفيروز في ستّينات القرن الماضي عرفت أصواتاً أكثر شدّةً، أكثر تأصّلاً في الأرض، أكثر قرباً من سرّ الخامة الواسعة، أكثر التصاقاً بالنبيذ الأحمر المعتّق. لكن من النادر أن تجد في الفرقة الرحبانيّة التي صنعت هذا التاريخ العظيم صوتاً أكثر عذوبةً من صوت إيلي شويري. ولقد أدرك الأخوان سرّ هذه العذوبة المقترنة بموهبة تمثيليّة نادرة. فأغدقا على الشويريّ أدواراً سيتذكّرها الناس كثيراً في قوادم الأيّام، من بيّاع الدواليب الذي يقف متألّقاً حزيناً إلى جانب العاشقة العملاقة صباح (دواليب الهوا)، وصولاً إلى «الخفيف» اللطيف الذي يتنزّه بين اللصوصيّة والظرف والأداء المتقن في برنامج «من يوم ليوم» (الجزء الأوّل)، الذي كتبه الرحبانيّان للتلفزيون في مطلع السبعينات. 

لقد غرف إيلي شويري من هذه المدرسة الرحبانيّة البحر معترفاً بجميل عاصي ومنصور وفضلهما عليه حتّى في شيخوخته. كان ذلك بعدما أعطى مطربين كباراً قصائد وألحاناً لا نزال نردّدها إلى اليوم لعلّ من أبرزها، إلى جانب أناشيده الوطنيّة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، لحن «تعلا وتتعمّر يا دار» (صباح)، و«يا بلح زغلولي» (داليدا رحمة)، و«سمراء» (ماجدة الرومي). ويُظهر هذا اللحن الأخير من كلمات جورج جرداق ما كان للملحّن إيلي شويري من قدرة على تجديد أسلوبه التلحينيّ وتخطّي الذات، كما يحلو لبعضهم أن يقول. وهو بالتأكيد قطعة فريدة في تراث الشويريّ تستحقّ التأمّل والدراسة، إلى جانب الإعجاب. 

في مقابلة لإيلي نقولا شويري مع الراحل الآخر رياض شرارة محفوظة في أرشيف تلفزيون لبنان، يطلب رياض من المطرب أن يتغنّى برائعته «وصلو الحلوين». فإذا بالشويريّ يفشي السرّ أنّ هذه المقطوعة الغنائيّة التي لا تشيخ هي من شعر عاصي الرحبانيّ وألحانه. تلك الليلة التلفزيونيّة، لم يغنّ إيلي شويري للحلوة التي كبرنا نحن فيما بقيت هي «صبيّة حلوة» تشبه الزهرة التي «أوراقها غمر» و«تتنزّه عحفافي العمر». لكنّه اليوم، في إثر رحيله، يجعلنا نستعيد هذه الأغنية التي تفيض زرقةً وجداول كي نقول له إنّه، على الرغم من الموت، سيبقى فتيّاً جميلاً يتنزّه بيننا على حفاف العمر بحضوره المحبّب وصوته الرقراق.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها