الإثنين 2023/05/15

آخر تحديث: 13:28 (بيروت)

لغز بيار سولاج... لوحات ترشح زيتاً أسود!

الإثنين 2023/05/15
increase حجم الخط decrease
كان رامبرنت، الفنان الهولندي الشهير (1606- 1669)، قد نفّذ عمله المعروف المسمّى Danaé بين العامين 1636 و1643، وقد أصبحت هذه اللوحة، في وقت لاحق، من ضمن مجموعة Crosat في متحف الإرميتاج بسان بطرسبورغ في روسيا، وذلك في العام 1772، وتعتبر هذه اللوحة أكبر أعمال الفنان من حيث الحجم، كونها مثّلت شخصيتين بالحجم الإنساني الحقيقي.

وفي حين أن محبي الفن قد يكونون مفتونين بجمال لوحة رامبرنت، وبتقنيتها الفريدة والمذهلة، فقد تبيّن أن آخرين لم يشاركوهم الرأي. ففي 15 حزيران/ يونيو1985، تعرّضت Danaë للهجوم من قبل Bronius Maigys، ليتواني الجنسية، والذي كان يبلغ من العمر 48 عامًا، إذ ألقى الرجل حامض الكبريتيك على اللوحة وهاجمها بسكّين. حُكم على مايغيس في وقت لاحق بالجنون، ويقول البعض إنه استهدف الأرميتاج، حينذاك، كرمز لسلطة الدولة الروسية- السوفياتية. أمضى مايغيس ست سنوات في مستشفى تشيرنياشوفسك للأمراض النفسية في منطقة كالينينغراد، ولا نعلم كيف سارت أحواله بعد ذلك. أما في ما يخص الفعل المشين، فقد حاول موظفو المتحف اتخاذ إجراء سريع (لم يكن خبراء الترميم التابعين للإرميتاج في الخدمة في تلك الساعة)، وهكذا، فقد تعرضت اللوحة لأضرار بالغة، ولم تعد، حتى يومنا هذا، كما كانت في الأصل. كافح الخبراء من أجل إعادة طلاء الأجزاء التالفة من اللوحة، لكنهم قرروا عدم ترميمها بالكامل (بمعنى إعادة طلاء الأجزاء التي تضررت) بل اكتفوا بالقيام بهذا العمل جزئياً.

استمر ترميم اللوحة 12 عاماً، وذلك من العام 1985 حتى 1997. وما زالت آثار التخريب ظاهرة، فقد عانت الطبقة العليا من الطلاء بشكل كبير، لكن بعض الأجزاء لم يتضرر بالكامل، ولذا يمكن القول إن روح رامبرانت ما زالت حاضرة في ذلك العمل الشهير والمدهش.

لوحات سولاج النازفة



إذا كان تضرر لوحة رامبرانت قد حدث بنتيجة فعل تخريبي إرادي، فإن لوحات الفنان الفرنسي بيار سولاج، الذي توفي منذ أشهر بعد عمر مديد (1919- 2022)، تضررت من تلقاء نفسها. لاحظ الباحثون قطرات صغيرة من الطلاء تتدفق على بعض اللوحات "السوداء"، وعُرف الفنان بعلاقته الوثيقة باللون الأسود الذي رافقه خلال فترة طويلة من مسيرته الفنية. حدث هذا الأمر نهاية الأسبوع الماضي، ما دفع الخبراء إلى التحقق من المسألة، بعدما أصبحت سطوح القماش لزجة، وظهرت عليها قطرات من المادة اللونية، التي لم تكن تشكّل جزءاً من التكوين الأصلي، إضافة إلى ظهور بعض الشقوق فيها، وهذا الأمر بدأ يترك تأثيراً في المظهر الأساس للعمل. يقول الخبراء إن ظاهرة غامضة لفحت بلوحات معينة لبيار سولاج، وبدأ الطلاء يتقشّر في بعض الأماكن، بينما يتحول إلى سائل في أماكن أخرى. "إنه حقًا لزج. إذا نظرنا تحت مصباح الأشعة فوق البنفسجية، نرى القليل من الترشيح. ونلحظ تشكل قطرات صغيرة. وعندما يتم تشكّلها، يمكن أن يكون تدفقًا بطول عدة سنتيمترات يخرج من الـImpasto، كما تشرح أختصاصية الترميم بولين هيلو دي لا غرانديير، طالبة الدكتوراه في جامعة سيرجي باريس".

قال البعض إن الأعمال تعلن الحزن على صاحبها، الذي توفي في شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. وتذكّر البعض الآخر أيقونات ورموزاً دينية ترشح ما يقال إنه الزيت، ويُنظر إليها كأعجوبة خارجة من لدن الدين. ومن النافل القول إن هذه الخاطرة تحمل وجهاً روحياً ورومانسياً. لذا، فقد كان لا بد من البحث عن السبب الواقعي الذي أدّى إلى هذه "الكارثة" الفنية. فأعمال أحد الوجوه البارزة في الفن الحديث تحتل مكاناً مميزاً في غير متحف في العالم كلّه، وهي ذات قيمة مادية كبيرة. (هو الفنان الفرنسي الوحيد الذي تخطت أسعار أعماله الـ10 ملايين دولار، وهو ما زال على قيد الحياة).



ولوحات سولاج ليست الوحيدة التي تأثرت بهذه الظاهرة الغريبة، فثمة لوحات لفنانين آخرين ممن عملوا في باريس خلال الفترة ذاتها التي نُفذت خلالها لأعمال سولاج، أي نهاية خمسينات القرن الماضي وبداية ستيناته، وقد حصل هؤلاء على لوازمهم الفنية من تجار اللون أنفسهم. لكن هذا الأمر لم يكن كافياً من أجل تفسير اللغز، لذا حلل باحثون من CNRS ومعهد البصريات Saint-Étienne الأعمال الثلاثة لبيير سولاج المتأثرة أكثر من سواها بهذه الظاهرة. ويطرح الباحثون حاليًا فرضيات عديدة لشرح مصاب اللوحات الغريب، توضح بولين هيلو دي لا غرانديير: "قد يكون مورد الطلاء هو سبب هذه المشكلة، تمامًا مثل "التلوث بالكبريت الثقيل" الذي أثّر في العاصمة الفرنسية في ذلك الوقت، كما أن هذه أيضًا اللوحات القماشية عُرضت بعد إنشائها مباشرة في المعارض، التي كانت في بعض الأحيان بعيدة جدًا، بحيث تم تخزينها على الفور في صناديق، ووضعها في الظلام، وربما ساهمت تغيرات المناخ من جفاف ورطوبة وسواهما في ذلك.



هذه "الفانتازيا" المفاجئة للمادة، غير المسبوقة في تاريخ الفن، كانت أثّرت أيضًا في اللوحات التي نفّذها رسامون آخرون في الفترة نفسها، كما ذكرنا، ومن ضمن هؤلاء الأميركيين ويليم دي كونينج وجوان ميتشل، والهولندي كارل أبيل، والكندي جان بول ريوبيل، أو الفرنسي جورج ماتيو. يشترك هؤلاء في كونهم عاشوا في باريس في الفترة ذاتها، وحصلوا على ألوانهم من التجار أنفسهم. بيد أنه يتم الآن التعامل مع بعض الفرضيات بحذر، إذ يلقي البعض باللوم على شتاء 1959-1960 القاسي في باريس (11.3 درجة تحت الصفر)، والذي كان من شأنه أن يؤدي إلى زيادة التدفئة في ورش العمل، وتعريض اللوحات للتلوث بالكبريتيد، وتعطيل تجفيفها بشكل طبيعي. لكن، لماذا لم تؤثر هذه الظروف في اللوحات المرسومة خلال شتاء 1956 (14 درجة تحت الصفر في باريس في 2 شباط/ فبراير)، أو في عامي 1917-1918، عندما انخفضت درجة الحرارة في العاصمة إلى 13.8 درجة تحت الصفر؟ إلى ذلك، تدعو فرضية أخرى إلى التشكيك في حقيقة أن اللوحات عُرضت بعد وقت قصير من اكتمالها، بعدما نُقلت إلى أماكن بعيدة، كما ذكرنا سلفاً، أو أن الأعمال كانت تلقت طبقة ثانية إضافية من الورنيش قبل عرضها. وفي الحالات كلها، فإن التحقيق ما زال مستمراً، وفي انتظار تفسير اللغز، فقد يكون الحل المؤقت هو إخراج الأعمال بانتظام من أماكن تخزينها ومراقبتها من كثب بشكل دائم.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها