الجمعة 2023/03/24

آخر تحديث: 12:36 (بيروت)

"الإرث المستعاد" لليلى جبر جريديني... تحية لذكرى نَول ونسيج

الجمعة 2023/03/24
increase حجم الخط decrease
معرض الفنانة اللبنانية ليلى جبر جريديني، المقام لدى "غاليري جانين ربيز"(بيروت - الروشة)، اتخذت له الفنانة عنوان "الإرث المستعاد"، الذي يفصح عن المضمون من دون خلفيات وماورائيات، كانت عودتنا عليها معارض كثيرة في الفترة الأخيرة، عبر اختيارها عناوين تعتمد الرمز والتورية. ويضم المعرض أعمالاً شديدة الاختلاف من حيث أحجامها، الكبيرة منها والصغيرة، نُفذت بتقنيات ووسائط مختلفة.

عندما قلنا إن وسائط مختلفة استُعملت في الأعمال المعروضة، التي لا تشبه في مجموعها ما قد نراه في معارض أخرى، فلأن الألوان وخيوط القماش ومواد أخرى، كانت قيد الاستعمال من أجل التوصّل إلى صوغ المفهوم الذي قامت عليه فكرة المعرض. تقول الفنانة، بما معناه: "كان دويّ وضجيج يصم الآذان يطالعني عندما فتحت الأبواب، ولوجا إلى ما بدا أنّه قاعة لا نهاية لها. أمسك أبي بيدي ونحن ندخل في بحر من أنوال النسيج التي احتلت كل شبرٍ من الغرفة الفسيحة. كنت في السادسة من عمري، وكانت الضوضاء شديدة على نحو لم أعهده من قبل... غطت يداي أذني بشكل غريزي، وعيناي كانتا مذهولتين، وكنت كذلك مفتونة بما رأيته".

ليس من الصعب الاستنتاج أن الحديث يدور عن معمل للغزل والنسيج، أو ربما مؤسسة من تلك المؤسسات، التي كان أصحابها يمارسون فيها حرفة تناقلوها أحيانا أباً عن جد، أذ تصبح هذه المهنة إرثاً عائلياً، وتلك هي حال الفنانة، التي بقيت صورة المعمل في ذهنها.

لكن هذه المؤسسة توقفت عن العمل، شأنها شأن مؤسسات عائلية عديدة اختفت مع الأيام، بعدما احتلت الآلة الحديثة مكان اليد الماهرة، والآلات المتواضعة، وطفا الإنتاج بأعداد هائلة من البضائع على العدد المتواضع للمهنة البائدة. لقد أرادت جريديني إحياء ذلك الماضي، لا من خلال إعادة نَول النسيج إلى العمل، بل عبر توجيه التحية للذكرى، ووضعها في إطار تشكيلي من أجل الذات والعائلة، كما من أجل المتلقي، الذي لا بد من أن تولد لديه رؤية الأعمال تواردت معينة، ذات علاقة بفرع من فروع التراث والحرف الشعبية التي لم يبق منها سوى القليل في أيامنا الحاضرة. أما في ما يخص المحتوى المادي- التقني للأعمال، فلا شك في أن "الخيط" لعب دوراً محورياً فيها.

"وجدت نفسي ألتقط القطع الصغيرة، متمسّكة بماض بعيد، لكنه شديد الوضوح في ذهني. قمت بفرز هذه القطع الثمينة من الآثار، شعرت برغبة لا تلين لفحص نسيج الماضي: التحقق من الأدوات والخيوط والغرز التي تشكل المنسوجات الرائعة ذات الدور المحوري في تاريخي الشخصي"، كما تقول الفنانة. وفي الواقع، عملت جريديني على مزج تقنية الماضي مع خبرتها التشكيلية المتراكمة على مر السنوات، وذلك من أجل الوصول إلى حلول تشكيلية جاءت، في وجهها العام، ذات منحى تجريدي، تهدف إلى تجيير اللون من أجل بعث نوع من الدفء المميز لهذا النوع من المنتجات. فالأعمال، هنا، لا تقص حكاية النسيج، بل تعمل، من خلال المحتوى ذي الطبيعة المتنوعة (خيوط القماش والصوف والقطن والحبر والأكريليك وسواها)، لتروي قصة العلاقة التي تجمع ما بين الفنانة والمادة. هناك هندسة في بعض المواقع تحيلنا، من خلال التوارد الذهني- الفني، إلى أعمال الفنانة البلجيكية مارت دوناس (1885-1967)، أو فيكتور سيرفانكس (1897-1965)، البلجيكي بدوره. لكن هذا التوارد ذهني بالطبع، إذ إن الجوهر لدى جريديني يلتصق بعامل ذاتي – عائلي، ولم يأت الشكل سوى من أجل أن يمنحه البعد البصري- الجمالي، الذي يحضر بلا ريب في أعمال الفنانة.


إلى ذلك، فمن اللافت أيضاً تلك العناية بالتفاصيل، من دون أن يؤدي الفعل إلى نتيجة شكلانية، وهي التي لم يصل إليها الفعل الهندسي المذكور أيضاً. كما أن بعض الأعمال لبّت بعض شروط منتجات أو لوحات النسيج الحديثة gobelins، من حيث حرية الشكل العام، الذي لا ينحصر حكماً ضمن إطار هندسي معروف (مربع أو مستطيل، على سبيل المثال)، بل من الممكن أن يتعداه بلا تكلف، عبر خيوط أو إضافات منسدلة من الجهة السفلى (التعبير الفرنسي gobelin يمكن أن يعني أيضاً "العفريت" أو "العفاريت"، لذا اقتضى التوضيح، نظراً للفرق الشاسع بين المعنيين). هذا، مع العلم أن "عفريتا طيباً" يسكن أحياناً في رأس الفنان، وهو ما يدفعه إلى سلوك دروب ومسارات بعيدة من المألوف، وقريبة من عالم الفانتازيا المترامي الأطراف.

ليلي جبر جريديني من مواليد العام 1963. درست التصميم الغرافيكي في باريس، وحصلت على شهادة في الفنون الجميلة في مدرسة بارسونز الجديدة للتصميم في نيويورك، كما درست علم الاجتماع في جامعة السوربون بباريس. في رصيدها العديد من المعارض الفردية والجماعية، وتمثل أعمالها النحتية جزءاً من المجموعة الدائمة لمتحف سرسق، وكانت حصلت على تقدير خاص من هذا المتحف العام 2012، إثر مشاركتها في صالون ذلك العام.

(*) يستمر المعرض حتى الخامس من نيسان/ إبريل لدى" غاليري جانين ربيز "– الروشة، بيروت.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها