الجمعة 2023/02/10

آخر تحديث: 14:17 (بيروت)

الأرض على قرنَي ثور

الجمعة 2023/02/10
increase حجم الخط decrease
- للخوف عيون كثيرة، بوسعه أن يرى الأشياء الخفية
(ميغيل دي ثيربانتس - دون كيشوت)

جاء في مجلة "إنسانيات" الجزائرية المتخصصة في الانثروبولوجيا والعلوم الاجتماعية، أن الشيخ محمد بن سحنون الراشدي، يتمايز عن بقية المؤرخين من مُعاصريه بأنه خصّ زلزال العام 1790 بمقدمة عامة تتمثّل في مجموعة من التعاريف والأساطير المرتبطة بهذه الظاهرة الطبيعية. فالزلزال في المعتقدات الشعبية، يحيل إلى الأساطير المنسوجة حول نشأة الكون، مما يؤكد رسوخ الثقافة الميثية. وهو، في المعتقد الصوفي "تجلّي الحق سبحانه للأرض"، فإذا أراد الله أن يخوّف خلقه، أظهر للأرض منه شيئاً، فارتعدت. ويتطرق ابن سحنون إلى الاعتقادات السائدة التي كانت سائدة في الأوساط الشعبية، فيقول: "وسببها (أي الزلازل) أن بعوضة خلقها الله تعالى وسلّطها على الثّور الذي عليه الأرض، فهي تطير أبداً بين عينيه، فإذا دخلت أنفه، حرّك الثور رأسه فتحرَّك جانب من جوانب الأرض".

بالطبع هذه القصة أو المروية الشعبية الميتولوجية، تعطي صورة عن تفسيرات الزلازل في الزمن الغابر والغيبي، ومع التأمل والمتابعة لبعض التصاريح الشعبية، أو وعظ بعض "جهلاء الدين ورجاله" واستعادتهم ملامح من أقوال الماضي المنسوبة للإمام علي أو الخليفة عمر بن الخطاب، وحديثهما عن العقاب الإلهي، وعلامة الساعة والغضب، نحسب أنهم ما زالوا هناك، يعيشون في ظل أسطورة الأرض على قرني ثور، في الخرافة الميتية. ما زالوا في القرون الوسطى ينتظرون الاعتقادات الشعبية والفقهية التي تصلح أن تكون رواية مسلّية أو فيلم رعب، والأصح أنها لا تصلح لشيء.

في المقلب الآخر، وبغض النظر عن هذه القصة وشعوذات بعض المعمَّمين أو المنجّمين التلفزيونيين أو مُدّعي العلم ومراقبة ضوء القمر، نجد أنّ الحداثة فشلت في وعودها ونظرياتها لناحية سيطرة الإنسان على مصادر الخوف. فالوعد الأهم للحداثة كان تحرير عقل الإنسان من الخرافات والمعتقدات، سواء الصحيحة أو الخاطئة. بمعنى أدق، تفريغ الإنسان من أى اعتقاد أو مبدأ، لذلك توجب على الحداثة أن توفّر الأمان اللازم للإنسان للإيمان فقط بها وليكفر بباقى المعتقدات. لكن الحداثة فشلت فى توفير الأمان المزعوم لمعتقديها، وعلى العكس كانت الممارسات الحداثية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية أكبر باعث على الخوف وعدم الأمان... (نتحدث هنا عن الأشخاص الذين "يؤمنون" بالحداثة، ويعتقدون بها، ونحن نعي وندرك أن الكثير من الحداثيين في الشرق الأوسط لم يلتقطوا من الحداثة إلا قشرتها أو قشورها).

نستقي هذا الكلام من الفيلسوف البولندي ريغموند باومان، سَليل مدرسة فرانكفورت، وأحد أبرز مفككي الخوف. ففي كتابه "الخوف السائل"، يبيّن أن الحداثة لم تستأصل الخوف من العالم، ولم تخضعه لإرادة البشر. فالثقافة الغربية قطعت وعوداً كثيرة، من بينها الوعد باستئصال الخوف من العالم وإخضاعه لإدارة بشرية وعقلانية، وعنى ذلك استبعاد لغة القضاء والقدر والبلاء والابتلاء، والتحوّل الى لغة الإدارة والاستحقاق والمسؤولية. وعلى الرغم من إعلان الحداثة موت الإله على يد نيتشه، ودحض براهين وجوده على يد ايمانويل كانط، ما زال الله ملاذًا للخائفين. وعلى الرغم من نمو ممارسة العقلانية على يد رينيه ديكارت، ومن ثم هيغل وكارل ماركس، ونمو ممارسة البيروقراطية على يد ماكس فيبر، ما زال السحر والشعوذة والأسطورة والخرافة تحيط حالة الخوف بهالة غير عقلانية.

على أن الحداثة السائلة، بحسب باومان، أعادت تشكيل وعي الناس وإدراكهم للعالم، فولدت لهم خوفاً من نوع ثان، وهو خوف يعاد تدويره اجتماعياً وثقافياً. خوف يطول، وهو إحساس بالعجز وفقدان الأمان. فإن كان الخوف الأول، خوفاً لحظياً مرحلياً، سرعان ما يزول بالمواجهة أو الهروب، وقد يُكسب الإنسان خبرة مستقبلية في مواجهة مخاطر أخرى، فالخوف الثاني هو شعور دائم بالعجز وعدم الأمان. والسبب أن الحداثة السائلة سلبت الإنسان الشعور بالقوة الذي يكتسبه من الجماعة والدين، وأوكلته الى الشركات والمؤسسات الكبرى التي تبيعه الأمان المصطنع، مع خلق خوف جديد لديه لطلب مزيد من الأمان والتأمين...  

لم تنفع حلول تأميم الخوف في الجمهوريات الاشتراكية، ولا تخصيصه في النظام الرأسمالي. بقي الإنسان، الكائن الوجودي الضعيف، بجسده الهش، وعقله الذي يمتاز به عن سائر المخلوقات، يحاول أن يتذاكى من أجل البقاء، ورغم ذلك ظلّ أسير "الخوف الكوني" كما يسميه الكاتب ميخائيل باختين.

في لحظة الزلزل، يجد المرء نفسه أمام أفظع ما قد يأتي من "القدر" و"المجهول"، ونتيجته في أقل تقدير، الذهاب الى العالم الغيبي ومناجاة المجهول والمخلّص. يكون المرء في حيرة، وتنتهي كل النظريات والأفكار والعبقريات الفلسفية، فلا مزاح مع الطبيعة في لحظة ثورانها وتوحشها وشرّها. ويصبح الخوف الذي يصنعه الجنس البشري في حروبه وقنابله، مجرد هامش وتفصيل، مقارنة بـ40 ثانية زلزالية، توراتية ابوكالبسية بالمعنى المجازي، وحقيقية، تركت وراءها "القيامة الآن". هذا عدا عن أن المدن أو المباني التي بناها الإنسان خوفاً على نفسه، تصبح مصدر خوفه أو أدوات قتله. هكذا يسيل الخوف، مرة تنتجه الحياة ومتطلباتها، ومرات تنتجه الشرور البشرية والحروب والإرهاب والأمراض الكونية. وبالطبع، الزلزال نسخة خاصة من الخوف.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها