الأحد 2023/12/31

آخر تحديث: 08:50 (بيروت)

"الصبي ومالك الحزين" لهاياو ميازاكي.. أغنية وداعية بين عالمين

الأحد 2023/12/31
increase حجم الخط decrease

مَرَّت الآن عشر سنوات منذ أصدر المعلّم الياباني هاياو ميازاكي فيلمه "الأخير"، "صعود الرياح" (2013)، الذي يدور حول فنان يواجه حقيقة أن أعماله تُستخدم في الحرب والدمار. الفيلم، المأخوذة أحداثه من سيرة مفترضة لجيرو هوريكوشي، مصمّم المقاتلة اليابانية ميتسوبيشي زيرو التي استخدمت في الحرب العالمية الثانية - كان ملخصاً وافياً لمسيرة ميازاكي المهنية، اتسم بمراجع ذاتية وآراء حول اللقاء بين الإنسانية والتكنولوجيا والطبيعة. أشار النقَّاد إلى الفيلم باعتباره نهاية مثالية لأسطورة الرسوم المتحركة اليابانية.

حينها لم يكن أحد يدرك أن أغنية البجعة ستتبعها أغنية أخرى لمالك الحزين. وإذا أعطى "صعود الرياح" نهاية مرضية للجماهير، فإن "الصبي ومالك الحزين" سيتجاوز توقعاتهم تماماً. حين عُرض للمرة الأولى في اليابان صيف العام المنقضي، اختارت الشركة المنتجة إنزاله إلى الصالات دون دعايات كبيرة، باستثناء ملصق غير واضح، يظهر فيه طائر يشبه مالك الحزين ينظر إلى المُشاهد من عيون تخرج من منقاره. خيار تسويقي شجاع يقول شيئاً عن مكانة ميازاكي (82 عاماً) في وطنه، وعن رغبة لا تزال في أن يحبس أنفاس الجماهير.

يبدأ الفيلم بمنبه طائرة. إنها الحرب العالمية الثانية والمستشفى في طوكيو الذي تعمل به والدة البطل ماهيتو قد قُصفت لتوها. بعد مرور بعض الوقت على وفاة والدته، تزوّج والده من أختها الصغرى ناتسوكو، وهربت العائلة الصغيرة من الحرب إلى منزل طفولة الشقيقتين في الريف. تتكوّن الأسرة الجديدة أيضاً من سبع سيدات كبيرات في السن جميعهن خادمات. يذكّرن بأقزام سنو وايت السبعة، في تجوالهن ومشيهن واحدة تلو الأخرى، بظهور ملتوية، وقامات أقصر من أي شخص آخر. يحفل الفيلم بعديد عناصر القصص الخيالية، بما في ذلك مالك الحزين/البلشون الوارد ذكره في العنوان.

مثل شخصية العنوان في فيلم "مخطوفة" (2001) Spirited Away، يطفو ماهيتو الوحيد في عالم أحلامٍ خيالي/باطني. حرفياً، يرشده مالك الحزين المتكلّم عبر بوابة في برجٍ حين يعده بأن والدته على الجانب الآخر. مالك الحزين الرمادي ليس صديقاً (على غرار توتورو من الفيلم الآخر الشهير)، بل كاذب صفيق. علاوة على ذلك، اتضح أنه ليس حتى مالك الحزين، بل نوعاً هجيناً بين طائر نحيف طويل المنقار ورجل عجوز أخرق ولاذع. في الأثناء، السبع سيدات سيخبرنه أن البرج قد بناه عمّ ماهيتو الأكبر، الذي اختفى فيه ذات يوم ولم يعد أبداً.

لا عجب، فهنا يسكن ليمبو زمني حيث يبدو أن الوقت قد توقّف أو تداخل في بعضه البعض. هناك نسخة شابّة من والدة ماهيتو تعمل كذاكرة أبدية وحيّة، والرحلة عبر البوابة هي رحلة إلى العقل الباطن لماهيتو، الذي مزّقه الحزن والخسارة. اضطرابه الداخلي، وشعوره بعدم القدرة على التخلي والمضي قدماً، يتجلّيان عبر عناصر صوفية وميتافيزيقية. الآن، على عكس الفصل الأول - الذي كان راكداً بشكل غريب ولكنه ممتع – يُبعث الفيلم من خلال عواصف ولِهاب ومخلوقات سحرية: جنود متموّجون مسلحّون بسكاكين، لاحمون وشرسون. مخلوقات صغيرة لطيفة، متلوية، مثل أعشاب مارشميلو حيّة على شكل شعار سناب شات، يتبين لاحقاً أنهم أطفال لم يولدوا بعد يطفوون في السماء، في طريقهم ليصبحوا بشراً في بُعدنا/عالمنا.

تُهاجم أعشاب المارشميلو في محاولة لأكلها من قِبل قطيع من البجع الجائع ذي العيون الحمراء والثآليل. يشرح البجع أسبابه بالقول: "لا توجد أسماك في البحر، وليس لدينا خيار بينما نحن محاصرون هنا". وبهذه الطريقة، يندمج الشاعري والغرائبي، ويعكسان عالمنا، كما رأينا في العديد من عوالم ميازاكي الخيالية. ولكن بالمقارنة مع العديد من أفلامه السابقة، فإن حبكة "الصبي ومالك الحزين" أكثر تجريداً ومفارقة للمنطق. إلا أن هذا لا يُعدّ ضعفًا، بل لفتة كريمة، لأن التناقض المجازي المتشظّي يخلق مساحة كبيرة واسعة للتفسير والتأويل. يتدفّق الواقع الخام والخيال الملوَّن معاً في لوحة مجيدة وكابوسية ربما تحكي عن قيمة الطبيعة والسلام أكثر من أي فيلم غاضب.

الرسوم المتحركة المرسومة يدوياً تأتي بأسلوب ستوديو غيبلي المألوف، ويتفوّق ميازاكي على نفسه من حيث التقنية والتفاصيل. خلفيات كل صورة تبدو أكثر وضوحاً من أي وقت مضى. بالإضافة إلى ذلك، يتمتّع الفيلم بمعدل إطاري مرتفع بشكل واضح (وهذا هو السبب في أن 60 رساماً استغرقوا سبع سنوات كاملة لرسم جميع الكادرات) ما يجعل التباين بين الخلفيات الثابتة والحركات السلسة للصور ملفتاً للنظر على نحوٍ خاص. مثلاً، عندما يخرج عدد هائل من الضفادع من البركة ويغطّي ماهيتو وبقية الإطار تدريجياً بالمناظر الطبيعية الخلابة. قد يكون الانطباع العام هو الذي يفعل ذلك، ولكن أيضاً تبدو الموسيقى عاملاً حفّازاً؛ حتى يبدو للمُشاهد كأن أوركسترا الملحّن جو هيسايشي تجلس خلف ستارة الصالة وتعزف.

أفكار ميازاكي السلمية والمناهضة للحرب (الظاهرة بشكل أكثر مباشرة في أفلام "قلعة في السماء" (1986)، "قلعة هاول المتحركة" (2004)، و"صعود الريح" المذكور آنفاً) تهيمن هنا مرة أخرى على السرد والحكاية. عناصر السيرة الذاتية تحضر أيضاً هنا، فالبطل، ماهيتو، مرسوم على غرار طفولة ميازاكي، الذي عمل والده، مثل والد ماهيتو، في شركة لتصنيع مكونات الطائرات المقاتلة. بالإضافة إلى ذلك، اضطرت عائلة ميازاكي إلى الإخلاء من المدينة إلى الريف أثناء الحرب العالمية الثانية. أيضاً يستحضر حريق المستشفى في بداية الفيلم أوجه تشابه شخصية مع فقدان ميازاكي لوالدته، التي كانت معروفة بآرائها القوية ويُعتقد أنها كانت مصدر إلهام للعديد من الشخصيات النسائية في فيلموغرافيا المخرج، كما أن ارتباط ماهيتو العاطفي بوالدته يوازي حب ميازاكي لأمّه. بهذا المعنى، يبدو "الصبي ومالك الحزين" قصة نضوج حيث يجب على الطفل أن يتغلَّب على أنانيته ويتعلَّم كيف يعيش من أجل الآخرين.

هذه المرة، يقترن النقد الإنساني بحزنٍ عميق على فقدان الأمّ. على الرغم من أن الحزن يُصوّر من خلال الأحلام، إلا أن ميازاكي آسر في تجسيده والتقاطه. البجعات الأكولة أو الببغاء المتعطش للدماء محاصرون في حلمٍ مضطرب، ولا يمكن إطلاق سراحهم إلإ إذا أُغلقت البوابة. عندما يصل الفيلم إلى ذروته، يلتقي ماهيتو بخالق هذا العالم، عمّه الأكبر، وهو رجل مسنّ ذو شعر يشبه ميدوسا وشارب شائك، يرتدي عباءة. يتضح أن العمّ يقوم بمحاولة أخيرة للحفاظ على وجودٍ منهار (معاً) عبر تجميع بعض وحدات البناء السحرية. لكن اختلال توازن هذا الطوب السحري يوشك بانهيار الفنتازيا بأكملها والأمر متروك لماهيتو لتولّي المسؤولية وإنقاذ العالم.

من المغري بعض الشيء التفكير في العمّ الأكبر باعتباره مرآة لميازاكي نفسه، حيث يمرّر العصا (أو الطوب) إلى الصبي الصغير. هل سينقذ الحلم ويبقى حبيس حزنه؟ أم يتمكّن من تجاوز الأمر ومواجهة المستقبل؟ يبدو من الحماقة أن نعلن مرة أخرى تقاعد/ اعتزال ميازاكي، لكن إذا كان "الصبي ومالك الحزين" هو فيلمه الأخير، فإن له وظيفة مختلفة تماماً في مسيرته السينمائية عن فيلم "صعود الرياح". فبدلاً من إغلاق الكتاب بعناية، يعمد إلى تلطيخ صفحاته ويصنع منها أشكالاً ورقية ويلقي بكل شيء في الهواء. هذا الفيلم يشير إلى طريق للأمام، صوب وجودٍ جديد بنظرة خيالية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها