الإثنين 2023/12/25

آخر تحديث: 06:37 (بيروت)

20 يوماً في ماريوبول.. نبضة يأس أوكرانية

الإثنين 2023/12/25
20 يوماً في ماريوبول.. نبضة يأس أوكرانية
20 يوماً في ماريوبول
increase حجم الخط decrease

«الحرب سينما، والسينما حرب» - بول فيريليو

 

بعد 19 شهراً من الصراع، وعشية شتاء قاسٍ آخر، يبدو أن الحرب في أوكرانيا وصلت إلى طريقٍ مسدود استراتيجياً في ظلّ عدم وجود حلّ بديل أو مخرج واضح. الواضح الوحيد هو الإرهاق الذي سيطر على الخطابات حول الحرب، بما فيها تلك المتحالفة مع الموقف الأوكراني. إرهاق عسكري، وإعلامي أيضاً.

وهو يترك آثارا ممتدة دالّة وكاشفة. فثمة خيط ناظم يربط برميل البارود الروسي/ الأوكراني بما يجري حالياً في قطاع غزة، وهو مخيف بحدّ ذاته حين انكشاف وإدراك المفارقة المؤلمة في تعاطي العالم مع كلا الحربين. وهنا يبرز دور السينما في تناول الصراعات الكبرى من منظور مغاير لمنطق الحرب الذي يعيد إنتاج نفسه، دون حسيب أو رقيب، وينتشر بسرعة عبر التغطية الإعلامية وتداعياتها على شبكات التواصل الاجتماعي، ما يولّد انطباعاً زائفاً عن قُرب الحروب، وعن الحميمية المتلصّصة للعنف.

يظهر التسجيل السينمائي الوثائقي كلغة لمسافة مأخوذة من الصراع، حتى إن اُلتقط في خضم الحدث ذاته. هناك فيلمان – "20 يوماً في ماريوبول" (2023) و"غزة" (2019) – يوضّحان هذا الاقتراح، وكلاهما صوِّرا في مناطق حرب محاصرة وعاينا الأضرار والأكلاف الهائلة والمستمرة والمقيمة التي تخلّفها الحرب على أرواح مَن يجدون أنفسهم - بلا أدنى استعداد - وقودا وأضرارا جانبية لآلتها الرهيبة.

في هذا المقال نظرة مقرّبة على الفيلم الأوكراني الذي يتناول شهادة شخصية عن الأيام الأولى للحرب الروسية على أوكرانيا. وجدير بالذكر أن الفليم اختير لتمثيل أوكرانيا في سباق جوائز أوسكار 2024 في فئة أفضل فيلم دولي.

 

"20 يوماً في ماريوبول"، أول فيلم وثائقي طويل للمصوّر والصحافي الأوكراني مستيسلاف تشيرنوف، تم الانتهاء منه في بداية العام 2023، وهو بمثابة كبسولة زمنية ومعلوماتية عن الدمار الإنساني الذي حدث - وما زال يحدث - في أوكرانيا بعد الغزو الروسي في 24 شباط/ فبراير 2022.

أدرك مستيسلاف تشيرنوف وزملاؤه في وكالة أسوشيتد برس، المصوّر يفغيني مالوليتكا والمنتجة فاسيليسا ستيبانينكو، أن ميناء ماريوبول، الذي يقع على بعد أقل من 50 كيلومتراً من الحدود الروسية، سيكون هدفاً ذي أولوية لقوات فلاديمير بوتين في بداية الحرب. في 25 فبراير، سقطت الصواريخ في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك في ماريوبول، وكان مستيسلاف تشيرنوف وفريقه من بين القلائل الذين بقوا هناك.

منذ بدايته، يؤسّس الفيلم لغته البصرية ونهجه لمقاربة موضوعه عبر لقطات مأخوذة بكاميرا محمولة ومهزوزة يصاحبها تعليق المخرج: المدنيون في حيرة من صدمة القنابل، امرأة عجوز في حالة هستيرية تتجوّل في منطقة نائية، ثم تظهر لاحقاً بعد القصف على قيد الحياة، لكن منزلها قد دُمّر. فُرضت الأحكام العرفية، واختار كثيرون ترك منازلهم بينما لا يزال هذا ممكناً: فلا يتوفر سوى عدد قليل من الملاجئ ضد الغارات الجوية، ويتجمّع الناس في الأقبية، ولا تدمّر الصواريخ البنية التحتية والمواقع العسكرية فحسب، بل تدمّر أيضاً الأهداف المدنية. الكهرباء وخطوط الهاتف والإنترنت مقطوعة. مئات الضحايا يملأون المستشفيات التي تعرّضت بالفعل للقنابل، ثم تبدأ الجثث في الظهور في الشوارع، في انتظار مقابر جماعية لدفنها.

ما يدفع مستيسلاف تشيرنوف إلى دوامة الموت هذه هو رغبته في الإخبار/الإعلام، بما يتجاوز وظيفته الصحفية التقريرية: لقطاته نبضة إدانة ممتدة، تتحقّق صحّتها ويؤكّد عليها طوال الوقت من قِبل أطباء ورجال إطفاء وضحايا. ليست هذه المرة الأولى التي يبرز فيها هذا النوع من الصحافة، الذي يقدّم تقارير من مناطق النزاع ويلتقط روايات حيّة ومؤلمة، فقد شهدنا قبل سنوات فورة مثمرة لهذا النوع في أعقاب الثورة السورية وما تلاها من مقتلة أهلية برعاية النظام السوري وحليفيه الروسي والإيراني.

نحن، الجمهور الذي يستهلك هذه الصور بلهفة، اختبرنا سابقاً العيش عبر دورة أخبار سريعة الزوال، وتخدير مشاعرنا وحواسّنا من خلال الفيتيشية المتكرّرة للطبعات والنشرات التلفزيونية. هنا، حداثة وقيمة "20 يوماً في ماريوبول" تتمثّلان في كسر دورة الاستهلاك، واستمرارية المنتج الوثائقي يتيح - وفي هذه الحالة، يحفزّ - التأمّل، واختبار الصور.

"من المؤلم أن نشاهد هذا الأمر. ولكن يجب أن يكون من المؤلم مشاهدته"، يقول مستيسلاف تشيرنوف أثناء مواجهته "فيروس الدمار السادي" الذي يجبر السكّان على إخلاء مدينتهم في هذه المرحلة. معاناته الشخصية تكمن في تحميل الصور، كي تخرج من الحصار السيبراني الذي تفرضه المحدلة العسكرية. يقول تشيرنوف إنه صوّر 30 ساعة فيديو في ماريوبول، لكنه لم يتمكّن سوى من مشاركة 30 دقيقة منها مع محرّريه: "كيف يمكن للمرء إرسال ملفات كبيرة، أو رفع فيديوات ضخمة الحجم على مواقع التخزين السحابي في منتصف حرب؟". نرى امرأة حامل على نقّالة بعد الهجوم الروسي على مستشفى الولادة في ماريوبول: "كانت إصاباتها مميتة؛ لكننا بذلنا أقصى جهدنا، واستخرجنا من بطنها طفلاً ميّتاً"، كما يقول أحد الأطباء. عرفت الأم، بحسب المخرج، أن طفلها قد مات، فتوسّلت: "اقتلوني!".

انتشرت الصورة في جميع أنحاء العالم، وفي اليوم التالي نفى الكرملين استهداف قواته للمدنيين. وقال سيرغي لافروف، وزير بوتين الذي يعتمد خطاباً ساخراً وقاسياً يستحق العصر الستاليني، إن ما حدث كان مفبركاً وبالتالي اعتبره "إرهاباً معلوماتياً". أدّى هذا النفي الكاذب إلى نتائج عكسية: من خلال وضع الصورة في سياقها، والتي سُجّلت مباشرة بعد الهجوم، قام فيلم "20 يوماً في ماريوبول" بتفكيك الخداع الروسي وكشفه.

استمر حصار ماريوبول ما يقرب من ثلاثة أشهر - 86 يوماً بالضبط - حتى اعترفت أوكرانيا في 17 مايو/ أيار باستحالة استعادة المدينة. يرجع طول الحصار بشكل أساسي إلى مقاومة الجنود والمدنيين المتحصّنين في مصنع أزوفستال الضخم للصلب، الذي يعود بناؤه إلى الحقبة السوفيتية. في أبريل/نيسان، قُدّر أن 95% من مباني المدينة قد دمّرت كلياً أو جزئياً بسبب القتال والقصف. لا يزال العدد الإجمالي للضحايا غامضاً، وربما يكون في حدود 25 ألف مدني أوكراني و10 آلاف جندي من الجانبين. من بين السكان الأصليين البالغ عددهم 425 ألف نسمة، بقي ما يزيد قليلاً عن ربعهم في المدينة، فيما فرّ العديد منهم إلى مناطق أخرى في أوكرانيا، ورُحّل العديد منهم إلى روسيا.

لإنجاز الفيلم استخدم مستيسلاف تشيرنوف كاميرا سوني ألفا 7 Sony Alpha 7 وعدسة بسيطة للتصوير. لم يكن هناك وقت لتغيير العدسات: كان الزووم هو الحلّ. الميكروفون المستخدم لالتقاط الصوت كان بسيطاً أيضاً، وأحادياً بالطبع. تحسّنت الأدوات كثيراً في مرحلة ما بعد إنتاج الفيلم، ولكن حرصّ صنّاع الفيلم على الحفاظ على طبيعيته، بلا ألعاب بصرية أو أصوات معدّلة أو صناعية: "بعد التصوير، كان لا بدّ لي من تحرير القصة وإرسالها، لذلك عندما يستقبلها المحرّرون، تكون القصة جاهزة تقريباً".

"20 يوماً في ماريوبول" لا يصوّر التوتّر الناجم عن الحرب بشكل درامي، بل يسجّله ببساطة، كما لو كان الواقع مجرد نبضة من اليأس الصارخ في وجه آلة القتل والنفي الروسية. الرفض الواسع النطاق لتقارير مستيسلاف تشيرنوف من قِبَل الكرملين يشكّل الشرعية النهائية لفيلمه.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها