الخميس 2023/12/21

آخر تحديث: 13:03 (بيروت)

بورتريهات نزار عثمان: العفوية الطفولية...تعبيرية أيضاً

الخميس 2023/12/21
increase حجم الخط decrease
يعرض نزار عثمان، في "غاليري زمان" (الحمرا – شارع السادات) مجموعة من البورتريهات يربو عددها على العشرين. اللوحات ذات أحجام متوسطة وكبيرة، وقد عالجت موضوع البورتريه دون سواه، وذلك بتقنية الأكريليك، وبأسلوب واحد لم تتبدل معطياته كثيراً من عمل إلى آخر. 

لا بد من أن نشير، بداية، إلى أن موضوع البورتريه، كان، على مر التاريخ، التيمة المفضّلة والأثيرة لدى العديد من الفنانين. فصورة الفرد، شخصية أكانت أم مثلت أفراداً آخرين، لم تكن دائماً ذات طابع توثيقي إلاّ في بدايات هذا النوع، وذلك قبل اختراع الصورة الفوتوغرافية. هذا، علماً ان الناحية التوثيقية لم تكن مطلوبة، دائماً، في حد ذاتها خلال القرون الماضية، بقدر ما صلُح البورتريه الأرستقراطي والبورجوازي من أجل تأمين ديمومة شكل صاحبه بعد رحيله، وهو الطامح إلى تخليد صورته. أما البورتريه المعاصر فقد اختلف من حيث الشكل والمضمون، إذ أصبح يطاول أموراً ومسائل لا ترتبط بالمنتج الفني في شكل مباشر، وصار التعقيد لازمة تضيع في التفسيرات التي لا نهاية لها، بحيث بدا الأمر وكأنه يتعلق بالطريقة التي يمكن من خلالها أن تغدو الصورة معاصرة، ومدى علاقتها بشخصية الفنان ومزاجه. 

وكما ذكرنا في البداية، فإن نزار عثمان كان أفرد للبورترية مكاناً واسعاً في ما يصنعه، وذلك ضمن موضوعات أخرى كان تطرّق إليها كالمنظر الطبيعي أو أمور أخرى. وإذا كانت الصورة الشخصية في الرسم هي في الأصل عبارة عن تمثيل لمظهر النموذج، فإن عثمان لم يلجأ إلى موديل، إلاّ إذا كانت بورتريهاته تحمل إشارات معينة، مختصرة ورمزية، إلى شخصية من محيط الفنان لا نعرفها، علماً أن التماثل والمحاكاة قد يغيبان تماماً عمّا يفعله، أو يحضرا ضمن حدود معينة.

في هذا المجال، أشارت الباحثة كريستينا دي كارفالو في دراسة لها، العام 2000، حول هذا النوع الفني حين تقول: "إن ما يثير الاهتمام بالنسبة لي هو حقيقة أن الوجه هو أحد الأشياء الأولى التي نلاحظها في شخص لا نعرفه، وهذا ينقل إلينا أول شعور خام وصادق مثل عدم الثقة أو التعاطف". وبالفعل، فإن معاينة صور عثمان لا تدلّ على تمثيل ما لشخصيات قد نراها في الواقع، بل هي عفوية إلى حد كبير، وهذه العفوية أهملت العديد من القواعد التي وضعها الفن الكلاسيكي، في ما يخص العلاقة مع الموضوع.

على أن الفنان يتعامل مع البورتريه من خلال مقاربتين مختلفتين، وهذا الموضوع، أي ثنائية التعاطي مع العمل الفني في أعمال سابقة وأخرى جديدة، والسعي إلى إيجداد الحلول المناسبة، كان شغله على الدوام. هذا الأمر ليس بغريب عن الفن التشكيلي، إذ إن التنقل بين أساليب مختلفة، لكنها ليست متناقضة، ممكن دائماً، شرط الوصول إلى نتائج واضحة، وإلى درب يمكن أن يسلكها الفنان بما يتناسب مع طموحاته.

ولطالما بدا أن التمسّك بأسلوب واحد أوحد، وبمدخل لا بديل عنه، يحبس الرسّام ضمن قيود لا يعود من الممكن التفلّت منها. لقد تنقّل رسامون عالميون من أصحاب الشهرة الواسعة بين أساليب عديدة، لكن كان من الممكن التعرّف على نتاجهم، وتمييزه عن سواه، من خلال خيط رفيع كان يصل بين الأساليب المختلفة. هذا الخيط قد يكون عبارة عن خط أو لمسة أو لون، وقد ارتبط هذا التبدّل النسبي، أحياناً كثيرة، بالتأثير الذي كانت تتركه لدى الصانع تيارات فنية سادت خلال فترات معيّنة من تاريخ التشكيل.

أما فيما يخص نزار عثمان، فقد لاحظنا لديه، في بعض الأحيان، ميلاً نحو التعبيرية في وجها الأكثر قساوة، أو بالأحرى في سعيها المعروف نحو تحوير الشكل البشري. والمقصود هنا، الوجه تحديداً، الذي يحتل مساحة اللوحة، من دون أجزاء أخرى من الجسد البشري. هذه النزعة، التي لا بد من تأكيد وملاحظة منحاها الإيجابي ومردودها الشعوري، ترافقت لديه، من الناحية التقنية، مع اللجوء إلى عجينة لونية سميكة، معقودة على نمط "تنقيطي"، إذا أمكن تسميته على هذا النحو، من دون أن تكون في ذلك إشارة مباشرة إلى التيار الذي ساد لفترة معينة في فرنسا نهاية القرن التاسع عشر.

هذا، في حين أن هذه التقنية تتناسب إلى حد بعيد مع المشهد الطبيعي الذي طرق الفنان أبوابه، والذي يذكّر، في هذه الحالة، بالتنقيطيين سالفي الذكر، أمثال جورج سورا وتلميذه بول سينياك.  ولنقل إن اعتماد هذا الأسلوب في البورتريه، ربما كان من ملامح الأثر الذي تركه لدى عثمان، الفنان الراحل مروان كسّاب باشي، الذي ترك، أيضاً، أثراً واضحاً لدى العديد من الفنانين اللبنانيين الشباب.

أما الميل الآخر لدى عثمان، الذي نرى أمثلة منه في معرضه الحالي، فيتمثل في التعامل مع الوجه من زاوية عفوية "طفولية". إذ إن المردود النهائي للعمل يتماثل إلى حد واضح مع ما يمكن أن ينتجه صغار السن، حين يُطلب منهم أن يرسموا وجهاً.

هذه المسألة واردة في الفن التشكيلي، ومقصودة في ذاتها، ويمكن رصدها في مواقع كثيرة، وخصوصاً عند جماعة "كوبرا" الأوروبية (لدى كارل آبل على سبيل المثال). لكن تكوين الخطوط الخارجية للرأس لدى عثمان أتى على شكل دوائر، يقترب بعضها من النمط الهندسي، في حين تبتعد العينان عن المحور الوسطي لطرف الدائرة، من دون أن يكون لهذا المدخل معنى تعبيري واضح، لكن هذه الملاحظة لا تنفي وجود نقاط قوة في أعمال عكست موقفاً شعورياً ورمزيا مناسباً.

إستناداً إلى ما سبق، قد يكون مفيداً الجمع بين الإتجاهين المذكورين، مع رجحان للخيار الأول، وذلك بحسب المنحى الذي سيكون على نزار عثمان أن يعثر عليه، بعيداً من الهندسة، وأكثر قرباً من التعبير. هذا الأمر في حاجة إلى تجارب ومحاولات متكررة، ولا شك لدينا أن عثمان سينجح في هذه المهمة، وهو الذي يمتلك حماسة كافية، مضافة إلى الجديّة الضرورية والواجبة لمن يشاء الخوض في درب التشكيل، التي لم تكن يوماً على جانب كبير من السهولة.        
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها