الخميس 2023/11/30

آخر تحديث: 13:19 (بيروت)

بهرام حاجو... كوفية الزمن الفلسطيني

الخميس 2023/11/30
increase حجم الخط decrease
لطالما أثار بهرام حاجو انتباهنا، بل أكثر من ذلك، لا نملك إلاّ أن نعجب بما صنعه على مدى عقود، وهو الذي يمتلك خبرة متعددة الإتجاهات، تستمد بعض جذورها من هوية صاحبها ذات التنوّع الإنتمائي. فبهرام حاجو، سوري كردي، مقيم بشكل دائم في ألمانيا منذ بدايات سبعينات القرن الماضي، ما ساعده على الإحتكاك الدائم بأجواء الفن الأوروبي، إضافة إلى ممارساته الذاتية وأفكاره الخاصة، ليصبح أحد الوجوه البارزة في الفن التشكيلي المعاصر.

تكمن خصوصية فن بهرام حاجو في أنه يجعل من الجسد الإنساني داعمًا أساسياً لطريقة التعبير. ومن أجل فهم طبيعة أعماله، لا بد من العودة إلى الحوادث والمجريات التي تركت أثراً في حياته، وإلى تلك اللحظات ذات الأهمية البارزة في مسرته، منذ منفاه في ألمانيا، وانفصاله عن زوجته، وعزلته، وقلقه، وحتى مسائل المثلية، التي يشير إليها بعض النقاد الأوروبيين.

يقوم حاجو، عادة، بـ"حبس" موضوعاته – شخصياته ضمن حدود خطوطية ظاهرة ومرئية بوضوح، ويتمتع الكثير من شخصياته ببشرة داكنة (قد يكون في ذلك إشارة إلى بشرة الفنان، وملامحه الخاصة أيضًا)، فيما تُبرز الألوان القوة التعبيرية والباردة للتراكيب. لقد سعى حاجو، دائماً، إلى تدوين الألم الداخلي للذات من خلال أوضاع الجسد، وترهل الأكتاف، والوجوه أو النظرات البعيدة من العاطفة.

هذا التركيز على القيمة الذاتية للشخصيات، وبعض التجريد والإختصار في الشكل، إضافة إلى  رصانة المحتوى ذي الخلفية المحايدة، إنما يبرز الجانب الدرامي لأعمال الفنان، ويضيف إليها طابعاً مسرحياً. لكن الأعمال الأخيرة التي رأيناها للفنان، والتي لا شك لدينا في أنها تطاول الوضع الفلسطيني في شكل مباشر، تختلف عمّا سبقها. لقد عوّدنا حاجو على القسوة والإمعان في القطيعة بين الشخصيات الحاضرة في اللوحة، إذ من بين معظم أعماله، التي تحضر فيها شخصيّتان، لا نلمح أي التفاتة لأحد العنصرين نحو شريكه، كمَن لا يشعر بوجوده، أو أن كلاً منهما انعكاس لصورة الآخر. ثمة حوار صامت يدور بين اثنين يتعامل الواحد منهما مع الآخر كقرين لا مرئي، يكتسب حضوره من مخيلة صاحبه (كما هي قصة القرين في الأسطورة المصرية القديمة). يترسّخ هذا الجو المضطرب عبر مزيج من اللون الضبابي في الخلفية، وكأنه فراغ ممتد ومبهم يشكل معظم المساحة، ولا يشير هذا الفراغ إلى مرحلة زمنية، ولا إلى إطار مكاني، وكأنه المجهول الذي يترصد في الخفاء.

أما في الأعمال الأخيرة الحاضرة بين أيدينا، فالشخصيات، أكانت واحدة أو اثنتين (كما في أعمال كثيرة للفنان)، لا تنظر إلى المُشاهد. وبالرغم من أن هذه المقاربة كنا رأيناها بعض المرات في لوحات سابقة، لكنها تتخذ في اللحظة الحاضرة معنى مختلفاً تماماً.

صحيح أن أسلوب حاجو لم يتغيّر في علاقته مع القامة الإنسانية، لكن القامات التي أمامنا، وإضافة إلى كونها تنظر في الإتجاه المعاكس، و"تعطينا ظهرها"، فهي تنحني لما يرتسم أمامها، أي الكوفية التي صارت منذ زمن طويل رمزاً للنضال الفلسطيني، وازداد هذا الرمز رسوخاً إثر الحوادث الجارية في غزّة وفي المناطق الفلسطينية الأخرى. وأمام هذا الرمز-الموتيف الذي يختزن في داخله قصصاً وروايات عن صراع وبطولات ومآسٍ، لا يملك الإنسان–الفنان إلاّ أن يحني رأسه بحيث نرى بالكاد، من الخلف، جزءاً بسيطاً منه.

هذا الوضع الإنساني قد لا يشير فقط إلى احترام الرمز الممتلىء صوراً متشابكة لا نراها، بل يشير، أيضاً، إلى بعض العجز الذي يراودنا تجاه ما يحدث في الساحة: عجز صانع العمل والمتلقي معاً عن المشاركة العملية المباشرة في الحدث الجلل، في مقابل تضحيات من مختلف الأنواع والمستويات تتم على أرض الواقع ضمن حدود الوطن المسلوب.

لقد صرنا نقف عاجزين ومحبطين أمام الفرع الدراماتيكي للحدث، لدرجة أننا نتجنب مشاهدة ما يحدث، مما تنقله وسائل الإعلام المرئية، وتنسخه وسائل التواصل الإجتماعي، في بعض الحالات التي قد لا نراها مناسبة تماماً، بحسب اعتقادنا، إذ أن نشر هذه الصور يزيد من درامية الحدث، وقد لا يراه أحد سوانا.

أمّا من الناحية التقنية، فلا بد من إبداء الإعجاب بما يصنعه بهرام حاجو، والذي لا يخرج عملياً عن مداخله السابقة، من حيث التعامل مع القماش الموضوع على الأرض، وخلق تأليف تجريدي من خلال نشر الألوان بسكين أو فرشاة أو قطعة قماش، من دون تغطية كامل سطح القماش، ثم نشر الرمل والألوان ومزجها مع الطلاء الذي ما زال مبللاً، من أجل خلق الأجواء التي يبرع في تمثيلها.

يضاف إلى ذلك، العمل على بناء المساحات الكبيرة البيضاء المصقولة، واللجوء إلى الخطوط الحادة التي تبدو، في حد ذاتها، إحدى ميزات فن حاجو. فالرسم، بالنسبة للفنان، يكتسب قيمة طاغية نظراً إلى جانبه التلميحي، الفوري والعفوي. بضعة خطوط تكون كافية، سواء أكانت رقيقة أو جريئة، لتجعل الأشكال نابضة بالحياة. في دائرة الضوء تظهر القامات، لكنها هذه المرّة، هزيلة وضبابية أمام الكوفية التي تملأ حيزاً بارزاً من العمل. فهذا الزمن هو زمن فلسطين، الذي شغل الفنان وشغلنا، وشغل العالم كلّه ربما.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها